ربما لأنه معروف بقلمه الأدبي كما هو معروف بثوبه الديني النقي، بادر مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين إلى تحرير سيرته الذاتية في كتاب: «والذكريات صدى السنين»، نزولاً عند إلحاح من أسماهم بعض الأخوة، كما ورد في تمهيده: الدكتور قاسم علي سعد، مدير تحرير مجلة «الأحمدية»، والدكتور صالح معتوق والشيخ حسن الملاح، فكان أن تيسّر له وضع هذا السفر العظيم، سيرة وسريرة، لا لشخصه وإنما لصيدا الأثيرة على قلبه، ولجميع المراكز الدينية والاجتماعيّة والتربوية فيها، بما جعل منه وفّاضاً للعقل والروح، وهو القلم الجليل الذي تدبر إفتاء صيدا طيلة عقود، وتدرج بل تقلب في مراكزها لعهود. في خمسة فصول ونحوٍ من 480 صفحة، شهد الشيخ جلال الدين، لمدينة صيدا، ودوّن لها وأرّخ لعصورها وقصورها، أكثر مما كان يشهد لنفسه ويؤرّخ لمراحل حياته التي كان يقطعها، قطعة قطعة من عذاب النفس وبُرَحاء الروح. فجاء بذلك السفر العظيم الذي ضم بين دفتيه: أ- بطاقته الشخصية أولاً حين تحدث عن صاحب المذكرات، وعنى بذلك نفسه، متوقفاً عند نسبه وطفولته والعقارات التي كانت تابعة لأهله. لوقف أهله بني جلال الدين، ذاكراً الدار الشهيرة المعروفة بدار بني جلال الدين التي تقع في محلة «مصلبية» بالقرب من كنيسة الموارنة في باطن المدينة. وكانت هذه الدار سكناً لمن يكون ناظراً ومتولياً على زاوية بني جلال الدين. وأنه على أساس من ذلك نصب القاضي الشرعي في صيدا، وأقام السيد الشيخ أحمد أفندي جلال الدين، ناظراً شرعياً وقيّماً ومتولياً ومتكلماً مرعياً على الوقف المذكور (ص20). وذكر صاحب السيرة بسبل تعليمه من المرحلة الابتدائية في المقاصد الخيرية حتّى تخرجه في كلية التربية والتعليم في طرابلس وطلبه العلم في الأزهر الشريف بين (1935- 1938)، حيث درس أصول الفقه الحنفي على فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر آنذاك. وقال إن مكان درسه كان في مسجد عابدين في القاهرة (ص25). وعن الوظائف التي تداولها: فقد بدأ معلماً في كلية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا براتب قدره خمس وعشرون ليرة لبنانية، ثم قاضياً شرعياً سنة 1943 ليتدرج في المحاكم الشرعية ويرسم مفتياً سنة 1983 على صيدا والجنوب بالتزكية. واضعاً مجموعة قيمة من المؤلفات الدينية المهمة: عن الزواج والطلاق والزكاة والحج وتدبير الجنازة. ولا غرو فقد عرف سماحة المفتي في سلك القضاء الديني بأحكامه المميزة. وفي عدادها أحكام مهمة أخذت تشكل سابقات قضائية، وكان يستند في إصدارها على تفسيرات وقناعات، وفي طليعتها اعتباره أن مهمة القانون تأمين السلام في المجتمع كي يحقق كل إنسان الحق والعدالة. فكان بذلك مثال القاضي الذي يضطلع بسائر العلوم الإنسانية والفكريّة والاجتماعيّة، إلى جانب إلمامه بالقضايا والمسائل القانونية العلميّة والدينية والأدبيّة. ب- وإلى بطاقته الشخصية، جعل الشيخ جلال الدين قبالتها بطاقة دقيقة لمدينته الأثيرة صيدا. إذ تحدث عن موقعها واسمها وبعض ما قيل فيها. كذلك تحدث عن تاريخها عبر العصور وعن الحياة العمرانية التي اشتملت عليها إن في حدود المدينة التاريخيّة الأثرية أو خارجها، إضافة إلى الحديث المفصل الذي ساقه عن وضعها الاجتماعي وعن العادات والتقاليد التي كانت تسودها وعن الوضع الاقتصادي الذي عرفت به عبر الأزمنة، من خلال الحديث عن تجارتها وصناعتها وزراعتها وسياحتها. ويقول إن صيدا كانت عاصمة الاقتصاد الجنوبي وبوابة الجنوب اللبناني ومنارة تجارته وصناعته، ومقصد التجار الأجانب والسياح والعلماء. من زمن الفينيقيين وحتى الفتح العربيّ والعصر الحديث (ص71). ج- وخصص الشيخ جلال الدين الفصل الأوّل (81- 123) للحديث عن مرحلة التحصيل العلمي، من المقاصد الخيرية في صيدا وحتى إتمام دراسته ونيله شهادة الإجازة في الفقه الإسلامي الحنفي من الأزهر الشريف في القاهرة متوقفاً عند المدارس التي أنشأته وتعلم فيها، وعن الأسباب التي جعلته يختار دراسة الشريعة الإسلامية ودراسة اللّغة العربيّة معها وعن جميع مراحل التعليم التي قطعها، إضافة إلى مرحلة تدريسه بعد عودته إلى لبنان سنة 1938، مباشراً العمل التدريسي في مدارس المقاصد، وخصوصاً في كلية المقاصد في ضهر المير، حين كانت الطبقة الأرضية عشر غرف، أمّا الطبقة الأولى فكانت تحوي جناح الإدارة وصالة المنامة وقاعة المطبخ. وكان طلابها يقاربون 650 طالباً منهم 120 طالباً داخلياً (ص113). د- تحدث الشيخ جلال الدين عن مرحلة القضاء، وأنه تم تعيينه أولاً قاضياً لمحكمة حاصبيا الشرعية في أول تشرين الأوّل سنة 1942. وقد استيقظت ذاكرته على المراحل التي قطعها القضاء الإسلامي منذ زمن الخليفة عمر بن الخطاب وحتى زمن الأزهر الشريف. ويتحدث عن معاناة سفره قاضياً من صيدا إلى حاصبيا فيقول: «السفر إلى حاصبيا مقيد وموقت لأن وسائل نقل الركاب محصورة بسيارة واحدة ماركة فورد– طراز توربيدو القديم– وكان سقف السيارة يعرف «بالكبوت» وأثناء هطول المطر يضع السائق لوحات تقي الركاب من ماء الشتاء والرياح. وكانت هذه السيارة الوحيدة التي تؤمن السفر بين صيدا وحاصبيا. وأنه لم يكن هناك فندق للغرباء، بل كانت بيوت أهلها مضافة لهم (ص141). ه- ثم نراه يفصل في الحديث عن حاصبيا في سفح جبل الشيخ وبالقرب من الينابيع، وعن بلدات العرقوب أيضاً خصوصاً بلدات كفرشوبا والهبارية وكفرحمام ومرج الزهور. وكذلك كان له حديث مفصل عن أحداث 1943 والتي أنهت الانتداب الفرنسي واستقبلت الاستقلال اللبناني. من دون أن ينسى الكلام عن مراحل القضاء التي قطعها في المحكمة الشرعية في صيدا وفي محكمة الاستئناف الشرعية في بيروت وفي جمعية المقاصد الخيرية في صيدا. ناهيك بثورة 1958 وما رافقها وعن رئاسة المحكمة الشرعية السنية العليا، مع تقديم نبذة عن الوقف وإدارة الأوقاف في لبنان 198– 209). و- في الفصل الثالث (209- 307)، عقد البحث كله عن مرحلة الإفتاء في صيدا، فتحدث الشيخ جلال الدين أولاً عن الحاجة إلى الفتيا، وعن تكليفه منصب المفتي وذكرياته في ذلك، وعن قصة اقتحام العدو الإسرائيلي منزله ليلاً : «ففي الساعة الواحدة بعد منتصف ليل الجمعة التاسع والعشرين من كانون الأوّل 1983، استيقظت على دوي الرصاص كان يطلق حول المنزل وعلى بوابة البناية.. فإذا بي أمام ثلة من جنود الاحتلال الإسرائيلي بأسلحتهم، فاقتحموا المنزل وقاموا بتفتيشه غير مراعين حرمة ولا حصانة، باعتباري مفتي صيدا وممثل الطائفة في الجنوب كله (ص219). كذلك تحدث عن صمود صيدا وأيامها الخالدة وعن النداء الذي وجهه إلى أهل الضاحية الجنوبية، متوقفاً عند رحلته إلى الكويت وعند اغتيال مفتي الجمهورية الشهيد الشيخ حسن خالد. وعن تكريمه في قاعة حسام الدين الحريري في 14/1/ 1996 بدعوة من مؤسسة الحريري في صيدا، في حضور ممثل رئيس الحكومة رفيق الحريري، وزير الدولة للشؤون المال فؤاد السنيورة آنذاك. ز- وفي الفصل الرابع (307- 452)، كان حديث مفصل عن الهيئات الإسلامية الخيرية في صيدا، مثل هيئة الدعوة الإسلامية ولجنة الإغاثة العامة الصيداوية وعن إنشاء صندوق الزكاة وعن النشاطات في شهر رمضان ومشروع توزيع مواد الطهو وعن قصة بناء مدرسة الإيمان. وعن المقبرة الجديدة في منطقة درب السيم. وعن قصة مزار النبي صيدون. إضافة إلى حديث مفصل عن الإسلام والحرية وعن ذكرياته الخاصة في ذلك: «البيت الذي حضنني طفلاً ورباني يافعاً وراقبني شاباً ورافقني رجلاً ووهبني ما كان لعائلة جلال الدين التي أنتسب إليها من ذكر حسن، ومكانة مرموقة في المجتمع الصيداوي، وأسعدني بشرف النسب الذي يتصل بالإمام الحسين عليه السلام/ شهيد كربلاء ابن السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلعم) (ص349) كذلك تحدث عن انتقاله إلى مدرسة الفرير في صيدا، فاقتبس منها حب النظام وصداقة رفاقه المسيحيين، طيلة عامين قبل الانتقال إلى بيروتفطرابلس. وقد ألحق بالكتاب نحواً من أكثر من مئة صفحة، اشتملت على ملاحق متفرقة ومسارد السفر العظيم. إذ راعى سماحته ضيق ذات القارئ بسماحة صدره الواسع، فسهل عليه سبل المراجعة لمواد بحثه الغنية والدقيقة والأكاديمية والتي لا غنى عنها لأي طالب علم إن في الفقه الإسلامي أو في الوقوف على آثار صيدا العظيمة، في حقبة تعتبر من أهم حقبات تاريخها الحديث والمعاصر.