يرقب الآباء ابناءهم الذين يعيشون مرحلة المراهقة والشباب بخوف وحذر كبيرين لأنهم يلاحظون عليهم انهم انحازوا الى مرحلتهم تلك بكل ما فيهامن استقلالية وذاتية وتميّز، ويخشون ان يشكل انحيازهم ذاك تخلياً عن اهلهم وأسرهم ومجتمعهم ككل. ورغم ان هذا الانحياز ليس بالأمر الخطير الا انه يشكل مشكلة تتحول احياناً في بعض العائلات العربية الى حالة مأسوية، تهتز معها اسر بفعل التوترات المستمرة والمتواصلة التي تحدث بين الآباء والامهات والأبناء الشباب، الى درجة يسود معها نوع من الغضب المدمّر حتى وان لم يسده حقد او كراهية وهما أمران يصعب تصور حدوثهما بين الأب وابنه وبالعكس احياناً. وغالباً ما يقع التباس في تحديد المسؤول عن تلك المشكلات: هل الآباء والأمهات ام الأبناء شباباً وشابات؟ الخطورة اولاً ليست في تحديد المسؤول عن تلك المشكلات، بقدر ما هي في عدم فهم الطرفين، الآباء والأبناء، لها ولطبيعتها. فالشاب يكبر ويترعرع دون ان يتمكن من فهم طبيعة مشكلاته، لأنه يعيشها، لذا فهو لا يستطيع اعتبارها مشكلات، بل هي سلوكه ووقائع حياته، حتى ان ما يعتبره الاهل مشكلات يراه الابناء الشباب عكس ذلك. اما الاهل فغالباً ما يرون في سلوك ابنائهم مشكلة بل هو مشكلة بحد ذاته. فغالباً ما نسمع أباً يقول ان ابنه صائع ضائع، لا يعرف ما يريد وانه يقضي وقته بين هواياته ومع اصحابه، خارج المنزل، واذا عاد فلكي يأكل واحياناً يأكل خارج البيت. ولا يتورع الأب عن ان ينتقد حتى لباس ابنه الشاب وحتى طريقة تصفيف شعره والكثير من تفاصيل حياته. في حين يرد الابناء رافضين تدخل آبائهم في حياتهم، ويعتبرون ان تدخلهم يصل الى حد ينصّب الآباء انفسهم اوصياء على الابناء، اوصياء على كل حركة من حركاتهم، وكل كلمة يتلفظون بها، وكل تصرف وكل علاقة لهم. في هذين الموقفين يقع التباين الكبير الذي يكاد يهز الاسرة، بل يهزها بعنف، ويهدد تماسكها، لأن الأم تحار، في هذا التباين الكبير بين الأب وابنه، تحار اين تقف، ومن تناصر وتحاول التخفيف من حجم المشكلة ووقعها على العائلة ككل، فاذا لم تنجح فتبدو الأسرة مهددة فعلاً. وهنا لا بد للأسرة من ان تستعين بمن يساعد في حل مشكلتها، وغالباً ما تفضل بعض الاسر الاستعانة بالأهل والاصدقاء في معالجة تلك المشكلة والتخفيف منها، والا فلا بد من الاستعانة بمرشدين اجتماعيين نفسيين لحلها. ويتحاشى علم النفس الاجتماعي اصدار حكم سريع على احد طرفي تلك المشكلة اكان الأب ام الابن، فلا يعتبرهما، احدهما او كلاهما، مصابين بأي اختلاف يصل بهما الى المرض النفسي، فالمرض النفسي في رأي علم النفس الاجتماعي: هو تلك الصعوبات الانفعالية، الشعورية واللاشعورية، التي تؤدي بالفرد الى عدم القدرة على مواجهة حاجات بيئته او على التكيف معها، على مستوى شعوري او لا شعوري، تكيّف بالكفاءة اللازمة وهذا التعريف هو حسب ما قاله مكسويل جونز كبير الاطباء النفسيين بوحدة الامراض النفسية بمستشفى بلمونت في لندن، في كتابه الطب النفسي الاجتماعي. ويضيف جونز قائلاً ان من الصعب تحديد ما يقصد ب"الكفاءة اللازمة" للتكيّف، فهو تعبير قابل للتأويل، ولعل تقديره هو مسألة ذاتية اكثر منها موضوعية… وعلى اي حال فان الخط الذي يفصل بين الصحة والمرض هو خط رفيع جداً، ولعله ايضاً خط اختياري الى حد كبير. ففي حالة الأب والابن هنا من الصعب القول ان الابن لم يواجه حاجات بيئته ولم يتكيف معها بالكفاءة اللازمة: اذ هناك تباين بين فهميهما وموقفيهما من البيئة المقصودة وحاجاتها، فالأب قد لا تعجبه بيئة "الجينز" او "الهمبرغر" او "موسيقى الروك" او "الهافي متل" التي يواجهها ابنه بنجاح ويتكيف معها بكفاءة، ويريده ان يتكيف مع بيئته هو بيئة الأب، اي بيئة البذلة الرسمية او اللباس المتعارف عليه، وبيئة الأكل في اطار عائلي وهكذا. بل قد يتمكن الابن من التكيف مع محيط ابيه وأمه وعائلته ككل بنسبة محدودة، ولكن ليس بالمستوى الذي يريده وبالكفاءة التي يعتبرها الأب لازمة. ثم من قال للأب ان الكفاءة اللازم للتكّيف هي هذه او تلك؟ وانها يجب ان تكون في هذا المستوى او ذاك؟ من هنا تساعد استعانة الاسرة بمرشد اجتماعي عائلي في توضيح امور كثيرة في حيز هذه الاسرة تتعلق بالابن والأب على حد سواء، فالأب مدعو لمعرفة ان الشباب مرحلة في العمر مر بها ويمر بها ابنه، لكن مرورهما يختلف نسبة ونوعاً وذلك حسب تطور مجتمعيهما في مرحلة الشباب. فمرحلة الشباب مرحلة انتقالية حرجة عنوانها الاولي البلوغ الجنسي الذي تصاحبه تغيرات جسمية وانفعالية واجتماعية، وهذا يعني القدرة على التناسل، كما يعني الاتجاه نحو الجنس الآخر والزواج والحياة الاسرية وهذا كله يشكل عامل ثقة بالنفس من جانب الشاب قد تصل به الى الثقة بالنفس والاعتداد بها، وهذا دليل صحة نفسية اذا لم تيحول الى عجرفة وغطرسة وادعاء بالتميّز الذاتي. وتتميز مرحلة الشباب بطفرة النمو الجسدي والنضج الهيكلي ونمو المهارات الحركية. وفي هذه المرحلة ينمو الذكاء وتبدأ القدرات العقلية بالتميز والاتجاه نحو النضج العقلي والتقدم في التعلم والتحصيل، وتنمو الانفعالات وتتميّز بالعنف والتناقض والقوة والحماس والحساسية وتتجه بقوة الى ان تصل الى الاستقلال والاستقرار والنضج الانفعالي. وخلال هذه المرحلة ينمو الشباب اجتماعياً ويستقل ويؤكد ذاته ويتصل برفاق سنّه واصدقائه يساير سلوكهم ويغايره احياناً ويتآلف معهم ويتنافس معهم ويمارس الزعامة، وتنمو اتجاهاته وقيمه الاخلاقية ومعاييره المعتقدية والايمانية، ويتعلم تحمل المسؤولية الاجتماعية وينمو ذكاؤه الاجتماعي، ويختار مهنة ويستعد لها وتتحدد فلسفته في الحياة هذا التحديد جرى استناداً لآراء عدد من ممارسي الارشاد الاجتماعي النفسي وبالذات في مصر. هذه المعطيات او المقاربة لتحديد مرحلة الشباب قد لا تكون كافية لكنها تسمح بتصور ما هي عليه هذه المرحلة من قلق واضطراب وتميز وخصوصية، على الأب تفهمها ووعيها وعدم طلب الكثير من التنازلات من الابن الشاب الذي له فعلاً عالمه وبيئته ولديه "كفاءة لازمة" لمواجهتها والتكيّف معها. وحتى لو لم توجد هذه الكفاءة فان الشاب يحاول بشتى الطرق العيش بنجاح او بشبه نجاح في خلية ما اجتماعية يعتبر نفسه منها. هذا لا يعني ان الابن فضّل آخرين على اهله وأسرته، وهذا ما يظنه بعض الآباء، لكنه يعني ان هناك مسافة ما بين بيئة الشاب الاجتماعية وبين بيئة اهله، على الاقل فهمها ومعرفة كيفية التعاطي معها.