عندما توصل العلماء والأطباء في بريطانيا مطلع 1990 إلى أن مرض "كروتسفيلد جاكوب" الذي يصيب البقر ينتقل إلى البشر فيضربهم بالجنون، ضربت أوروبا حصاراً على المملكة المتحدة ولحومها. وظلت فرنسا، على رغم الاجراءات التي اتخذتها الدوائر المعنية في لندن لتنظيف المزارع من هذا الفيروس، تطارد غريمتها الأطلسية سنوات إلى حد الابتزاز... إلى أن أفاقت قبل مدة على نداء علمائها محذرين ومؤكدين أن جنون البقر في أراضيها وأن أبناءها استهلكوا منه الكثير الكثير. ولعل "جنون البقر" أبرز ما حرك ويحرك المواطن الأوروبي، فيما قمة نيس منعقدة هذه الأيام وأمامها ملفات أشد تعقيداً وأكثر مصيرية للقارة... لكنها لم تنس إلغاء طبق اللحم البقري من لائحة الطعام المعدة للوفود المشاركة. ويكتفي العالم العربي بالمراقبة من بعيد. ينام على حرير الاجراءات التي اتخذتها الدوائر المعنية في بلاده منذ اندلاع الأزمة في بريطانيا. وأخشى ما يُخشى أن يفيق يوماً، كما أفاقت فرنسا، على أصوات مجانينه، ضحايا اللحوم المستوردة قبل 1996، أو ضحايا أبقار مزارع عربية استوردت العلف الحامل لفيروس BSE Bovine Spongiform Encephalopthy، وهو فيروس اكتشف عام 1983. لقد فرضت الدول العربية عام 1990 الحظر على استيراد اللحم البقري من بريطانيا بعد ظهور حالات الجنون فيها. وكانت سلطنة عُمان أول من أعلن ظهور هذا المرض خارج المملكة المتحدة. وانخفضت واردات هذه الدول من الأبقار ولحومها ومنتجاتها بنسبة 84 في المئة من 21،18 ألف طن متري عام 1988 قيمتها 39،33 مليون جنيه إلى 76،3 ألف طن متري عام 1995 قيمتها أربعة ملايين جنيه. في حين تشير احصاءات الجامعة العربية إلى ان العالم العربي يستورد سنوياً حوالي 2،5 مليون طن لحوماً من دول الاتحاد الأوروبي. راجع ص 8 وكان وزير الصحة البريطاني في 20 آذار مارس 1996 أعلن التخلص من الابقار التي يفوق عمرها 30 شهراً والسماح باستهلاك الأبقار الأصغر سناً. وعلى الأثر توالت قرارات البلدان العربية لحظر اللحم البقري البريطاني ومشتقاته. وحدد وزراء الصحة العرب في 27 من ذلك الشهر، في اجتماع طارىء عقد لهذا الغرض، الاجراءات اللازمة للتأكد من حظر دخول أي ماشية أو لحوم مصابة وتشكيل لجان وطنية في كل بلد لمراقبة واردات الماشية واللحوم والاعلاف الحيوانية ذات المنشأ البروتيني. وتأثرت السوق البريطانية مباشرة مع تراجع حصة الاستهلاك الفردي للحم البقري من 21 كلغ عام 1980 إلى 12 كلغ عام 1996. أما في البلدان العربية والأوروبية التي استعاضت عن اللحم البقري البريطاني بلحوم بديلة فتراجع الاستهلاك تراجعاً بسيطاً. إلا أن شيوع ظاهرة جنون البقر والاتهامات التي وجهت الى دول الاتحاد الأوروبي بالتعتيم على استشراء هذه الظاهرة، أضعفت ثقة المستهلكين باللحوم البقرية ومشتقاتها، وفتحت ملف "الجنون" على مصراعيه ليس في الدول الاوروبية وحدها، بل في الدول العربية. "الحياة" تابعت هذا الملف في عدد من البلدان العربية، وكيف بدأ المستهلكون والمسؤولون في الدوائر الرسمية يتحركون للتعامل مع هذا الملف.