انتهى آخر عام من الألفية الميلادية الثانية من دون ان يحقق الرئيس الاميركي كلينتون وعده بإنهاء أطول قضية عرفها القرن المنصرم، ألا وهي قضية الشرق الأوسط. واكتفى من عهده بإنجاز خارجي غير مكتمل في ايرلندا الشمالية التي زارها مودعاً يوم ثبتت المحكمة الفيديرالية العليا فوز المرشح الجمهوري جورج بوش الإبن. وبدلاً من ان ينصرف الى ترتيب مستقبله السياسي ويجيّر مسؤولية القضية المعقدة لخلفه، قام بتجربة أخيرة لعل الاتفاق النهائي يسمح بتجديد ولاية ايهود باراك وانقاذ مشروع السلام. واعتبر ياسر عرفات العرض الاسرائيلي المقدم بضمانات الراعي الاميركي، فرصة مناسبة لاسترجاع 95 في المئة من أراضي الضفة الغربية، زائداً كامل قطاع غزة. وأربكه هامش المرونة التي أبداها رئيس وزراء اسرائيل، خصوصاً عندما ألقى كلينتون الكرة في الملعب الفلسطيني، طالباً من رئيس السلطة تحديد موقفه المتردد. وهو موقف بالغ الخطورة لأنه يرسم الخطوط الرئيسية لنموذج الدولة الفلسطينية المزمع انشاؤها. وبما ان الأسلوب المتلهف المتعجل الذي مارسه الفلسطينيون في أوسلو افقدهم الكثير من أوراق المساومة، فإن عرفات بدأ يطالب بدراسة معمقة للمقترحات خوفاً من الألغام السياسية المزروعة في طريق الاتفاق. وتأتي في مقدم هذه الألغام العروض المتعلقة بالأماكن المقدسة، وكيفية التعاطي مع موضوع السيادة الذي يفصل نفوذ الفريقين. ويرى المحللون ان جميع زعماء اسرائيل طبقوا وصية بن غوريون القائل بأن العروض المطروحة يجب ان تُصاغ بطريقة يصعب على الفلسطينيين قبولها. بعكس ايهود باراك الذي قدم لعرفات حلاً يصعب رفضه. ولتحاشي تكرار تجربة أوسلو، يحاول رئيس السلطة الفلسطينية ادخال مصر كشريك فاعل في مرحلة الاعداد بحيث تتسع دائرة السلام لضمان دعم أهم دولة عربية دشنت عملية المصالحة التاريخية، علماً بأن الجناح المتطرف داخل السلطة الفلسطينية يطالب عرفات بضرورة التروي والحذر لأن التنازلات الاسرائيلية الأخيرة فرضتها قوة الانتفاضة... ولأن التغيير في البيت الأبيض قد يؤثر على مجرى الأحداث. في حين يشجع الجناح المعتدل سياسة اقتناص الفرصة لأن جورج بوش الإبن لن يتمكن من ممارسة الضغوط على اسرائيل بسبب تبدل الظروف الاقليمية والدولية التي قادت عام 1991 الى مؤتمر مدريد. أو بسبب الركود الاقتصادي الذي حذر منه الرئيس الاميركي الجديد ونائبه ديك تشيني. ولهذا رحب الرئيس بوش الإبن بالمساعي التي يقوم بها كلينتون، وأعلن تأييده لأي اتفاق يعلن قبل توليه الحكم. ويتردد في واشنطن ان الادارة الجديدة قد تكلف الرئيس السابق باستئناف مهمته اذا استطاع خلال الأيام القليلة المقبلة ان يعالج خلاف الطرفين حول مستقبل القدس. ويرى العديد من المحللين ان السياسة الاميركية في الشرق الأوسط ستتغير كثيراً مع مجيء ادارة بوش التي تفضل القيام بخطوات صغيرة بدلاً من البحث عن اتفاق شامل يصعب تحقيقه. ويتوقع هؤلاء ان تتقدم مشكلة الجولان على القضية الفلسطينية في حال عاد ادوارد دجيرجيان لتسلم منصب مساعد وزير الخارجية. عندئذ سيضطر عرفات الى تأجيج الانتفاضة، والى الاستعانة بالشارع العربي المعارض لضرب المصالح الاميركية في المنطقة واجبار الادارة الجديدة على مواصلة ما بدأته الادارة السابقة. خصوصاً وان السلطة الفلسطينية مقتنعة بأن انبثاق دولة من مفاوضات السلام ستكون أكثر متانة وقدرة على التحدي من دولة تعلن من طرف واحد. ومثل هذا الاعلان يعرض السلطة الفلسطينية للردع أو العقاب بموجب قانون العقوبات الذي يقيد تحركات ايران وليبيا والعراق. كما يعطي بالتالي العذر للكونغرس لأن يحض الرئيس على تنفيذ وعده الانتخابي بنقل السفارة الاميركية الى القدس. يجمع المعلقون على القول بأن الرئيس المنتخب بوش ينوي التصدي للقضايا الداخلية قبل الانصراف الى الاهتمام بالجبهة الخارجية. وهذا ما أوحى به في تصريحه الأخير وتحذيره من تأثير الركود الاقتصادي على تراجع الاهتمامات الخارجية، ويبدو ان هذا التحذير المقلق يشير بطريقة غير مباشرة الى اجواء التشاؤم التي تعيق تحركاته وتمنعه من التصرف بمعزل عن الحزب الديموقراطي. والسبب ان جوزيف ليبرمان قرر ترشيح نفسه عن الحزب لمعركة 2004 متحدياً بهذا القرار الرئيس الجمهوري. وبما ان الإعداد لهذه المعركة يحتاج الى مواجهات يومية مع العهد الجديد، فإن توقيت شن الحملات سيقوي التيار المؤمن بأن بوش سرق النصر من آل غور. ومن المؤكد ان هذا الاعتراض المتواصل سيشل قدرة الادارة، خصوصاً اذا نجح "اللوبي اليهودي" في اقناع السناتور هيلاري كلينتون بأن تتعاون مع ليبرمان وتنضم الى حملته الانتخابية كنائبة للرئيس. وكما ان خلاف الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة سيضعف قبضة ادارة بوش... كذلك سيضعف دور فرنسا داخل دول الاتحاد الأوروبي بسبب خلاف الديغوليين والاشتراكيين. ويتخوف المراقبون من انهيار الرئيس جاك شيراك أمام ضربات المعارضة التي فتحت ملف الفساد والرشاوى، وقررت توسيع دائرة الاتهام. ومثل هذا الشلل السياسي سيؤثر على الخيار الديبلوماسي الذي ارتضاه شيراك كنافذة لتحسين علاقات فرنسا مع الدول التي قاطعتها أميركا مثل العراقوايران وليبيا. كما يؤثر بالتالي على دورها المتقدم في موضوع سلام الشرق الأوسط. ومن الطبيعي ان تتحرك روسيا لملء الفراغ، خصوصاً وان الرئيس بوتين يطالب بالمشاركة الفعلية في العملية السلمية، ويهدد بممارسة سياسة اقتحامية تأخذ في الاعتبار مصالح روسيا وضرورة تمتين تعاونها العسكري مع العراقوايران وسورية. وهذا لا يعني بالطبع العودة الى أجواء الحرب الباردة، وانما يعني ان تأخير تسوية قضية الشرق الأوسط سيحرم اميركا من المراكز العالمية، ويفرض عليها الانكفاء أمام الهجمة الروسية - الصينية تجاه دول الخليج. وقد تكون معاهدة الصداقة التي وقعها الرئيس خاتمي مع بكين أبلغ دليل على عودة الصين الى المنطقة عن طريق طهران. والمرجح ان تدفع طالبان ثمناً باهظاً جداً نتيجة احتضانها للحركات الأصولية التي تطالب بتأسيس دولة اسلامية في وادي فرغانة على الحدود بين طاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزستان. وعلى الرغم من الخلافات المتعددة بين واشنطن وموسكو وبكين، الا ان الدول الثلاث متفقة على ضرورة تغيير نظام طالبان في افغانستان لأن تصدير الثورة يشكل خطراً على سلامتها العرقية. وكما ان افغانستان اصبحت المؤشر السياسي لتغيير الأوضاع داخل الجمهوريات الاسلامية، كذلك تحولت نيجيريا الى مصدر قلق في غربي افريقيا. والسبب ان أحداث حرب البيافرا بدأت تتجدد على نحو مثير للخوف، خصوصاً بعد تمرد أربع ولايات في الشمال على السلطة المركزية واعلان تطبيق الشريعة الاسلامية. وينص الدستور على ان نيجيريا دولة فيديرالية علمانية، وان تيار تطبيق الشريعة يصعب احتواؤه لأن المسلمين يشكلون 75 في المئة من الشعب. وقد تؤدي عملية ازدياد موجة تطبيق الشريعة في ولايات اخرى الى تقسيم نيجيريا المؤلفة من اكثرية مسلمة في الشمال، ومسيحية في الجنوب. وتحاشياً للانفجار الطائفي الذي يهدد وحدة البلاد، طالب الرئيس "أوبا سانجو" بضرورة عقد مؤتمر حول السيادة الوطنية لاعادة النظر في الدستور. ومن المؤكد ان سنة 2001 ستكون حاسمة بالنسبة لشكل النظام في أكبر دولة افريقية. المهتمون بالشأن العربي ينتظرون حدوث اختراق على الجبهة الفلسطينية - الاسرائيلية خلال هذا العام. والواضح ان مصر والأردن مهتمتان بتحقيق هذا الاختراق لأن استمرار الانتفاضة سيؤثر بشكل سلبي على اتفاقات السلام، ويقوي نفوذ الأطراف المتطرفة مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي". كما يقوي بالتالي المطالبات الشعبية والبرلمانية والحزبية والنقابية، الداعية الى قطع العلاقات مع اسرائيل. مقابل هذا الطرح، فإن اعلان الاتفاق النهائي بين عرفات وباراك، سيرفع من درجات التوتر على الساحتين اللبنانية والأردنية، خصوصاً اذا ظلت مشكلة اللاجئين معلقة من دون مشروع حل. ويتوقع الرئيس اميل لحود ان تخف حدة التشنج بين سورية وبكركي اذا تمت زيارة البابا لدمشق في منتصف شهر ايار مايو المقبل. ومع ان الدعوة موجهة من رئيس الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، إلا ان الدولة السورية ستستقبل البابا كرئيس دولة وليس كرئيس كنيسة. ولكن هذا لا يمنع الحكومة السورية من توجيه دعوات الى البطاركة في لبنان، ومن بينهم البطريرك صفير. ويُقدر عدد المسيحيين في سورية بمليون وثمانمئة ألف نسمة، بغالبية ارثوذكسية وأقلية مارونية. خلاصة التوقعات على الجبهة اللبنانية، ان زيارة البابا ستضعف الميل لطرح أزمة الوجود السوري، على اعتبار ان أزمة اللاجئين الفلسطينيين ستستأثر باهتمام الدولة. ويبدو ان تحريك هذا الموضوع لا يريح الاجهزة الأمنية فقط، بقدر ما يريح المطالبين ببقاء القوات السورية لتأدية مهمات اضافية لا تتعلق بتحرير الجنوب. ومن ضمن هذه المهمات إقصاء نفوذ عرفات عن مخيمات لبنان، واستبداله بنفوذ قيادة جديدة تكون مرجعيتها في دمشق لا في غزة! * كاتب وصحافي لبناني