أخيراً.. لا يفصلهم عنها إلا الباب الموصد منذ قرون سحيقة، اختام بادية. غبرة القدم، وتوقع صامت يسري من قطعة الخشب المنحوتة بدقة، المستوية، الناعمة، المرتكزة إلى نقبين، الأول اسفل والثاني أعلى. يتقدم الاستاذ منحنياً في الممر المؤدي، أوشك على الانتهاء، ببطء وبأيدٍ مدربة تم حفره، بتأن، على مهل، الأبصار كلها تتجه إلى الباب. لحظة فاصلة يتوق إليها كل من يعمل مثله، لحظة نادرة، قد لا تتكرر، وربما لا يعرفها معظم الباحثين، لحظة جرى تمهيد لها، عمل دؤوب، وأيام صعبة في هذه المنطقة النائية، الموغلة في الرمال إلى الغرب، لم يكن الاستدلال إليها سهلاً دون جهود سابقة لباحثين أمضوا سنوات في المنطقة، ولم يصلوا إلى شيء. كل الدلائل تشير إلى أنه سيلقاها وجهاً لوجه بمجرد فتح هذا الباب، ونزع غطاء التابوت، سيقع بصره على القناع الذي يغطي الوجه الملفوف في الكتان المحكم والقناع الدال، المؤشر على ما كان يوماً، نظراته تصل ما انقطع منذ توالي القرون والحقب بعد أداء الكهنة طقوس فتح الفم. منذ أن لمس كبيرهم الفم بعلامة الحياة - عنخ - قبل أن تدوي الصيحة. "انهض.. إنك لست بميت.. هل خوطبت الأنثى بعبارات مماثلة؟ بأي إيقاع كان النطق؟ أي روائح كانت تعبق الفراغ قبل إغلاقه؟ هل ستنفذ إلى حواسه بقاياها؟ ربما يشم عتاقتها الآن بعد اكتمال الفتح وسفور الموقع عن آخر مكنونه! نهاية وشيكة لعمل دؤوب استمر سنوات من عمره وتمهيد لا يمكن الإلمام به ممن سبقوه، إنه يحاول جاهداً إقصاء الخواطر والرؤى والتداعيات التي يثيرها الموقف حتى يفرغ ويصفو تماماً للحظة المواجهة، الرؤية، الكشف، لا يجد لفظاً محدداً يمكنه أن يستكين إليه وأن يدل على حاله. في الصباح راجع كل ما تم، نقوش الباب نسخت وصورت، كذلك المتون المقدسة على جانبي الممر، منها أيقن ما ينتظره وراء الباب، كل الدلائل تؤكد أنه لم يفتح، لم يعبث بالمحتوى منذ إغلاقه ذلك اليوم البعيد، يصعب تسميته أو تحديده من موقع اللحظة الآنية. لا يدري.. هل سيجد حبلاً مجدولاًَ يوثق مصراعي الباب موثقاً بخرطوش يحمل اسمها، تماماً مثل ذلك الحبل الذي تطلع إليه كارتر مدركاً أنه أمام الخطوة المؤدية، لكن ثمة فوق، الحبل الذي رآه الإنكليزي ومساعدوه مده وعقده وختمه كبار الكهنة الذين نقلوا محتويات مقبرة توت عنخ آمون خشية سرقتها بعد اضطراب الأحوال وسريان انتهاك المقدسات، وإقلاق مراقد الراحلين، لهذا كانت المحتويات مكدسة على عجل، من دون ترتيب يليق بوريث عرش الإله حورس. أي أن المرقد تم فضه مرة بعد إغلاقه، لكنه هنا أمام باب لم يفتح قط، يحول بين رقدتها وفراغ الممر المؤدي إلى الخارج. "نفرت" إنها الجميلة، من اميرات البيت الكبير، إنها الآتية من بعيد كما يقول أحد ألقابها؟ ألهذا اختارت هذا الموضع المنعزل؟ يكاد يلفظ الوصف الذي صاغه هو. "المتوحدة".. لم يقرأه في ألقابها أو توقيعاتها. أتى به هو ليقينه أنه ملائم متوافق معها، لكن يبدو مرقدها منعزلاً، منيع العتبات، جَمْعٌ بمفردها. فليؤجل ما يتوارد عليه إلى لحيظات سيغمض خلالها عينيه ويستعيد ما يمر به الآن. عندئذ ربما يبصر ما لا يراه، ما لا يطلع عليه وربما تبزغ فكرة لا تواتيه في حينه. انتبه، تطلع، فلن تفض أختام لم يقربها أحد قبلك مرتين، تبصر، لولا الصدفة التي أوحت إليك بمفتتح الطريق المؤدي إلى الناحية لأمضيت عمرك ولذهبت من دون معرفة تلك اللحيظات. يرفع المصباح، ضوء هادئ، بارد، لا يثير الحارة، مناسب للأماكن المغلقة، يثبت يده عن نقطة محدودة، يتقدم مساعده خطوة، إنه خلفه تماماً، يتناول المصباح حتى يتفرغ أستاذه لمعالجة الباب برفق وتأن وحذر. يطرق الباب، يصغي، الطرقات هذه المرة مختلفة، تسبق الفتح مباشرة. يوحي الصوت بالفراغ المؤطر. يمكنه أن يطور ملامح القناع الذي يغطي المومياء الملفوفة بالكتان. لطول ما أمعن التفكير وانشغل بها، كأنه قابلها وتطلع إليها، تحدث وسمع منها. لسبعة أيام استمر تنظيف ما حول الباب بفرشاة ناعمة، تم الكشف عن الحدود التي سيتم التعامل معها، ينحني، يتحسس الحد الغائر، يشفق على الخشب العتيق الذي لم يمسسه بشر منذ ثلاثة آلاف وخمسمئة عام وبضع سنين من مقدمة الأداة المصنوعة من الصلب الحاد. يدس سن الآلة العريض، الحاد، يدفعه متأنياً، متمهلاً، محاولاً ألا يتسرب إنفعاله إلى ثبات يده وضمة أصابعه، إنه مستغرق، متمكن الآن، يدفع ضاغطاً المقبض، مقاومة يسيرة، يقدر أن السن عبر إلى فراغ. قدر من أصداء الطرقات متانة وسُمك الباب، لكنه مفاجئ الآن بالسهولة التي غاص بها مقدم النصل في الحد الفاصل بين الجدار والخشب. ينتصب واقفاً، يضغط مقدمة الأداة من أعلى، المقاومة تحتاج الى ضغط أشد لكنه ينفذ إلى الفراغ عينه الذي قدره بأسفل. هل يبدأ الآن؟ إنها الضغطة الحاسمة، يفاجأ بسهولة لم يقدرها، كأن شخصاً خفياً يقف وراء الحاجز يساعده باذلاً طاقة تستعصى على الإدراك، يقف تماماً محدقاً إلى الأمام، يلتفت إلى مساعده، سيسدد هو الضوء إلى الداخل حتى تكتمل الرؤية. يرفع المصباح، يصبح بمحاذاة كتفه، يتراجع الباب تحت ضغطة يده بيسر، فراغ يتسع له، لا يمكن أي شخص خلفه النظر عبر كتفه، ينتظم مساعدوه ومعاونوه من عمال متخصصين خلفه على امتداد الممر، لكنه عند هذا الحد بمفرده، توقف الباب عن التراجع مفسحاً لفراغ يستوعبه بالكاد. من يصل إلى هنا لا بد من أن يكون وحيداً، فرداً، مفرداً إنه في مواجهة فراغ، لم يحرك المصباح بعد حتى يمكنه الرؤية، ما زال واقفاً عند حدود العتمة، تنفذ الرائحة المعتقة، الكامنة إلى أنفه، إلى صدره، يعرف خطورة الهواء المقيم واحتواءه على ما يسبب الهلكة لكن بعد حين مقدر، لكنه لا يعبأ، إنه في مواجهة لحظة فاصلة، إنه على وشك أن يرى. أن يقف على ما طال كمونه ولم يتبق إلا الإسفاد. شيئاً فشيئاً يغيب عنه ما يحطيه، يتجه تماماً إلى ما ينتظر دخوله دائرة إبصاره. كأنه يقف داخل فراغ خاص به، يتحرك فيه، هو فقط لا غير، يعرف مثل هذه الحال، الرغبة في تأجيل اللحظة الدانية التي سيتحقق فيها المأمول، لكنه الآن مأخوذ، مستغرق، متجه إلى ما ينتظره، إلى رؤية ما تنبأ به، ما جمع من أجله الأدلة، ما بذل صوبه الجهد والوقت وتوقع المأمول. يرفع المصباح إلى نقطة يمكن اللضوء أن يتقدمه ليكشف له الفراغ وما يحوي. لا يدري كيف تبدو ملامحه الآن، لا يراه أحد من المواجهة إلا سموها وجلالها وحضوره الماثل في مواجهته. ليس قناعاً ما يبدو له، ليس تابوتاً مغلقاً، ليست العين التي ترى للراحل المسافر معالم الوجود، إنما هو في مواجهتها تماماً، ترقد أمامه، مفتوحة العينين، جهيرة النظر، جلية البصر، تحدث صوبه مرتدية كامل ثيابها، منسدل شعرها، أصابع يديها مغطاة بأصابع ذهبية كل منها يحيطه خاتم سيدنو فيما بعد ليحدد النوع والشكل وطبيعة الشكل، إنه في مواجهتها، يدركها بالكلية. فراشها بيضاوي، طبقات من كتان أبيض شفاف، يحيطها، يفيض من تحتها، يغطي ساقيها، تنبسط ممتدة، ممتدة إلى أعلى، ناهضة بقدر، كأنها على وشك أن تهم، أن تشب، أن تبادر، لكنها لا تفعل. الإقدام منه هو، يتجه بجماعة إليها، بكل ما استوعبه من شوارد وتفاصيل، إنه مدرك تماماً، واع فرادة الحال، لم يقرأ ولم يسمع ولم يصف من سبقوه حال كهذه. إنها مكملة، مكملة في مواجهته، حاضرة، يتجه إلى الوجه، حاضر غائب، على وشك التبسم، لا يمكنه الإمساك بملامح محددة، غير أن تناسق الملامح مما أذهله، سنوات طويلة يتفحص الرسوم الجدارية، والملامح البادية عبر أوراق البردى والحلى والصناديق الصغيرة وقطع الأثاث التي سلمت من عبث الأيدي، لكنه لم ير مثلها، لم تقع عينه على شبيه لها. لم ير شبيهاً أو قريناً لها لأنها الحال الأولى من نوعها، ليس تحنيطاً ما يرى، لا يمت الجسد إلى المألوف من الموميات المحنطة التي تُخفي ملامحها بالكتان والأربطة. إنه في مواجهتها، هي، المحدقة إليه بعينين توشكان على تتبعه إذا حاد عن موقعه، لا يدري أي تصرف يجب أن يبدر عنه، ماذا عليه أن يتبع؟ هل ينحني؟ هل يتقدم؟ هل يحدق في اتجاه ملامحها أم يحاول الإحاطة بالمفردات الباقية، باقة الورد التي تبث عطرها المحفوظ، الكامن، ليس بوسعه إلا أن يثبت الضوء، لا يمكنه إلا التملي، أن ينهل مما أتيح له قبل أن يشاركه غريب حتى لو كان من أقرب المقربين. ضجعتها قيام مستمر، شروع في نهوض، وملامحها حاوية لبدء ابتسامة وتأهب لسؤال ولواح أسى ما، ربما لحظة الانتقال من حال إلى حال. حضورها تمهيد لحضور لم يسفر عن ملامحه بعد، لذلك تطول وقفته وكأنه يتوقع قيامها، أو صدور ضحكة عنها أو النطق بلغة لم يسمع إيقاعها قط. شعرها مصفف، مسدل حول وجهها الذي يمكن وصفه بالدائري أو الاستطالة، شفتاها منفرجتان إلى حد لا يمكن ملاحظته إلا بالتدقيق. على رغم أنها متجهة إلى الأمام، لكنها تدنو من التفاتة محسوبة، إلى يمين. إلى شمال؟ لا يمكنه التحديد، لا يقين ممكن عدا أنها أمامه، وثيرة الرقدة، مشعة البهاء القادم من عمق سحيق، ينتبه إلى استيعابه لها مع ثبات نظره، مع توجهه صوب وجهها، لكنه رأى صدرها الناهض. استدارة النهدين، الزهور موضعها فوق البطن، تخفي خفوض البطن وانخساف السرة. يوثق ملامحها في ذاكرته، ما عدا تلك اللحظة الممتدة تكراراً، يستقر الضوء، تشع عيناها صوبه، يوشك لكنه يحجم، عند لحظة معينة يدرك أن ثمة امراً يجري. متى بالضبط. ربما لحيظة امتزاج نظراتها بنظره، تلاقي البعدين، تداخلهما. مؤكد.. يتغير لون الوجه الأصفر الماثل إلى حمرة، يخبو ضوء المصباح الذي يعرفه، يحل ضوء آخر يجعل مصدره، لا يقدر على تحديد رؤيته، يميل إلى الأمام لكنه لا يتحرك. من صفرة مشربة بحمرة إلى قتامة لا يمكنه تحديدها أو معرفتها أو منح اكتمالها، غضون تظهر، جفاف يحل، يتسرب التناسق، والنظر المنبعث من عينيها، وتمتزج ملامحها، يمد يده لكنها لا تتحرك، يبسط أصابعه لكنها لا تثير، يهم بالنطق غير أن اللفظ لا يخرج، لا يسمع أحد استنجاده وغواثه لايقاف اكتمال الغناء، تحولها إلى رماد يتهاوى بسرعة كلما أطال التحديق، حتى الكتان الأبيض الحاوي... * كاتب مصري.