الرواية: فتنة الرؤوس والنسوة الكاتب: سالم حميش الناشر: دار الآداب، بيروت 2000 الصراع على السلطة هو الموضوع الذي تتمحور حوله أحداث "فتنة الرؤوس والنسوة" *، الرواية الجديدة للروائي المغربي سالم حميش. والسلطة، عبر التاريخ، هي ممّا يفتن الرؤوس، فتروح ترسم الخطط وتتحيَّن الفرص لبلوغها والاستئثار بها. ولتحقيق هذه الغاية تغدو جميع الوسائل مشروعة ويُضرب بالقيم الأخلاقية عرض الحائط، وتصبح السلطة الغاية التي تبرر أي وسيلة، ذلك ان لها إغراءها وجاذبيتها وفتنتها. وفي الفتنة لا بد أن تشمخ رؤوس وتتدحرج أخرى. واذا كان تداول السلطة في الغرب كثيراً ما يتم بطرق ديموقراطية، فإن الأمر يختلف في مناطق أخرى من العالم، حين كانت الانقلابات العسكرية الى أمدٍ قريب، احدى الوسائل الرائجة لهذا التداول، ولم تكن المنطقة العربية بمنأى عن هذه الوسيلة وتداعياتها. مثل هذا العالم المرجعي تحيلنا إليه الرواية، فيقوم الكاتب بتعرية هذا العالم والكشف عن الآليات التي تحكم عملية الوصول الى السلطة في محيط لا يزال الحقل المعجمي للديموقراطية خارج لغة أهله حكاماً ومحكومين. وهو ان تسرب الى هذه اللغة لا يعدو كونه طلاءً خارجياً أو شعارات براقة تخفي تحتها من الممارسات ما هو أوهى وأمرّ، ويكون الانسان فيها الضحية الأولى الأخيرة. وهذا الكشف يقوم به الروائي من خلال حكاية يتقاطع المرويُّ فيها مع العيش خارجها. وقد نقع على تشابه بين العالم الخارجي والعالم الروائي على مستوى الاسماء والمظاهر والتصرفات والوسائل ما يمنح العمل صدقيته الفنية، على ان هذا التشابه لا يمكن ان يبلغ، في حال من الأحوال، حدّ التطابق، فللخارج وقائعيته، وللرواية متخيّلها وسياقها المختلف. والحكاية هي حكاية معمر العلي أوفقيه، رجل السلطة القوي والجنرال الذي يحتكر الوزارات في قبضته، ويجرّ خلفه ماضياً قائماً من البطش والتنكيل بالخصوم والذنوب والارتكابات ما جعله مساعد سلطان عجوز مشارف على الموت تاركاً خلفه ولدين قاصرين. من هذا الموطئ يروح معمر يخطط للاستيلاء على السلطة، ويوظف في سبيل ذلك ما أمكنه من الأدوات البشرية، والأساليب الملتوية: وبعض الأدوات التي استخدمها مدير الأمن ووزير الملّة والوقف والعشيقة والعرافة والعملاء والمخبرين. وبعض الأساليب الاستدراج والتضليل والتجسس والفتك والمؤامرات والخداع والنفاق والتنكيل وتصفية المعارضين، وبعض الضحايا السلطان والمنافسون ونائب الرئيس والزوجة والعشيقة... فالأحتفاظ بالسلطة يسوِّل له ان يضحّي بأقرب الناس اليه سياسياً أو اجتماعياً. ولتنفيذ مخططه يقوم الجنرال بمساعدة مدير الأمن عباس الرواسي باستدراج منافسه الكولونيل حمدان الرامي للانقلاب على النظام السلطاني - العسكري، ويستخدم لهذا الغرض العملاء المزدوجين والمخبرين والعرافة. ويصطنع السفر ليفسح في المجال أمام نجاح عملية الاستدراج، حتى اذا ما ابتلع الكولونيل الطعم وقام بمغامرته الحمقاء، يكون الجنرال له بالمرصاد، فيسحق الانقلاب ويطيح برأسه، وينقض فيما بعد على السلطان، ويوعز الى جهاز الأمن تدبير انتخابات تكسبه الشرعية. وحين يتم له ذلك، يأخذ في تصفية معارضيه تباعاً، مستخدماً أساليب شتى/ بينها القتل والترويع والتجويع والحصار وقطع المياه والكهرباء وتسليط اللصوص والصعاليك والأجلاف والمساجين على احياء المدينة المعارضة. واذ يستشعر نمو قوة نائبه عباس الرواسي ينقض عليه بدوره، ويغدو الحاكم الفرد الذي لا يجرؤ أحد على مشاركته أو منافسته. وعلى هامش هذه الحكاية/ قضايا كثيرة تطرحها الرواية، ومنها: دكتاتورية الأنظمة العسكرية التي تحصي على الناس أنفاسها ويأكل فيها الكبير الصغير، وتأثير الغيبيات في اتخاذ القرارات، ودور بعض رجال الدين في تبرير تصرفات الحاكم واضفاء الشرعية على تصرفاته، وميوعة موقف الجماهير التي تمالئ "القوي سواء كان على حق أو على باطل حتى اذا ما ضعف مالت عنه الى سواه، وصُوَريّة مجالس الوزراء في الأنظمة العسكرية حيث الوزير مجرد موظف لا همّ له سوى نيل رضى الحاكم وتزيين ما يتخذه من اجراءات، وغلبة المظاهر الفارغة على المناسبات الاجتماعية للحكام حيث تطفو التفاهة على سطح العلاقات ويطغى النفاق والتكاذب المشترك. وهنا، ينجح الكاتب في تقديم صورة كاريكارتورية ساخرة عن اجتماعات الوزراء، وعن مناسبات المسؤولين الاجتماعية... واذا كان لنا في وقفة تحليلية عن شخصيات الرواية، فإنه يمكن الحديث عن نوعين من الشخصيات على الأقل، يندرج في الأول عبّاد السلطة والساعون اليها بشتى الوسائل، وينضوي تحت النوع الثاني معارضو السلطة ومنتقدوها وضحاياها. وفي اطار هذا التصنيف، يطالعنا على المستوى الأول معمر العلي أوفقيه نموذجاً للحاكم المستبد الذي تبوّأ موقعه على جثث ضحاياه. السلطة عنده غاية تبِّرر جميع الوسائل، وهو زير نساء ينتقل من عشيقة الى اخرى ويوظف عشيقاته في لعبة السلطة والايقاع بخصومه، سطحي الثقافة، واسع الحيلة، كثير الشك، ومن مواصفاته القيادية لجوؤه الى اللمح والايجاز وعدم التفسير والابقاء على مسافة بينه وبين مساعديه. يداهمه احساس بالذنب يحاول تخفيفه بإيمانه انه كان مسيَّراً فيما أقدم عليه لا مخيَّراً. غير ان نقطة ضعفه هي زوجته المتمردة عليه على رغم قوته، الرافضة حسّه المخابراتي وأساليبه البوليسية. والى هذا النوع عينه ينتمي نائبه عباس الرواسي الذي يبدو أداة طيّعة في يده، ينفذ تعليماته من دون تردد، ويحرص على ارضائه طمعاً في تحسين موقعه واشباع وصوليته البارزة - وهو معجب برئيسه أشد الاعجاب، متأثر به اكبر التأثر، فيروح يقلده في اصطناع مظاهر العظمة والظهور بمظهر القوي والولع بالألقاب وحب الذات واتخاذ المستشارين ممن يزينون له أخطاءه ويبررون تصرفاته، وهذا ما يثير حفيظة الجنرال عليه فيتركه حتى يينع ثم يقوم بقطافه. مطيَّةً التاريخ وفي هذه المجموعة يمكن تصنيف "أبو مهمة" مستشار الرواسي، الموظف المخبر الذي يتخذ من اطلاعه على التاريخ مطيَّةً لإرضاء سيده ويأتيه من السِّير بما ينسجم مع مزاجه. ويكون تابعاً له يربط مصيره بمصيره، حتى اذا ما دنت نهاية الأول نال الثاني منها نصيب، على ان ما يجمع بين هؤلاء الثلاثة ضعفهم أمام زوجاتهم وتمردهن عليهم. وعلى المستوى الآخر، نقع على أنيس النعيمي، عشيق مريم زوجة الجنرال، وهو أستاذ في الأدب ذو حسٍّ فني وقدرة على تذوّق الفن، وهو على طرفي نقيض مع الجنرال يحب ما يكره ويكره ما يحب، ولعلّه تناقض الثقافة والسلطة. وحين يكتشف ان الجنرال يزمع اغتياله، يطلب اللجوء السياسي الى بلد أوروبي، ويكتب في الصحف، ويتصل بجمعيات حقوق الانسان فاضحاً ممارسات النظام الذي يتربع الجنرال على رأسه. وأنيس هذا نموذج للمعارض الخارجي الذي يتوخى وسائل الاعلام والجمعيات للتعبير عن معارضته. والى هذا النوع تنتمي مريم زوجة الجنرال، الرافضة أساليبه، المتمردة على قمعه، ما يؤدي بها الى مصحة الأمراض العصبية. وهناك زينب عشيقة الجنرال رغماً عنها التي يتدبر مصرعها في حادث سير مروّع. وهكذا، نرى أنه في غمرة الصراع على السلطة ثمة رؤوس ترتفع وأخرى تتدحرج، ثمة جلاد وضحية، وقد يجتمعان في الشخصية الواحدة. هذه الأحداث والشخصيات تنخرط في خطاب روائي، يسير فيه السرد صُعداً على مستوى الأحداث وتعاقبها، غير انه من الناحية النصية يتخذ مساراً دائرياً فينتهي من حيث يبدأ. ويطعِّم الكاتب سرده بأغانٍ شعبية أو بكلام مستغلق ومفهوم هذيان ما يضفي تنوعاً على السرد، ويشي بتعدد الأصوات داخل الرواية. وقد يتخذ السرد خطاً متكسِّراً في بعض المواقع، فنقع على جدلية الوقائع والذكريات، وذلك عندما تستدعي الواقعة المسرودة ذكريات معينة يعود اليها الكاتب لبعض الوقت ثم يستأنف سرد الوقائع بعد ذلك. أما لغة السرد فهي مباشرة تسمي الأشياء بأسمائها حيناً، وهي ساخرة ذات ظلال حيناً آخر، وهي محكية في بعض الحوار فتضيء بيئة الشخصية المحاورة وخلفياتها الثقافية والنفسية، وتشير الى هوية المنطقة التي تحيل اليها أحداث الرواية، على رغم ان هذه المحكية قد تحول دون التلقي السهل لبعض الأصوات في الرواية، وهي لغة متخففة من الانشائيات والبلاغيات. في "فتنة الرؤوس والنسوة" يقتحم سالم حميش منطقة وعرة، وتكاد تكون محظورة على الأدب، فيقيم بالرواية معادلاً للواقع، ويرسم شبيهاً لكثير من الأنظمة العسكرية التي ما تزال قائمة حتى اليوم.