قد يكون "الملتقى الثاني الأوروبي المتوسطي" الذي شهدته مراكش أخيراً أحد الأحداث الثقافية المهمة على مستوى الحوار الأوروبي - المتوسطي والأوروبي - العربي. والمؤتمر تنظمه أكثر من مؤسسة منها: "عبر أوروبا للثقافة" وهي منظمة غير حكومية، والمؤسسة الأوروبية للثقافة أمستردام، مدرسة طليطلة للترجمة اسبانيا، ومؤسسة عبدالعزيز آل سعود الدار البيضاء. وفيما تم الملتقى الأول السنة الماضية في اسبانيا حول نصوص تراثية مهمة "طوق الحمامة" لابن حزم و"الكوميديا الإلهية" لدانتي و"دون كيشوت" لسرفنتيس تركز اللقاء هذه السنة على نصين رئيسيين هما "ألف ليلة وليلة" و"أنتيغون" لسوفوكليس. وتم اختيار هذين النصين بناء على مدى استجابتهما لضرورات هذا البرنامج "المتنقل من أجل الحوار الثقافي بين الباحثين والمبدعين الشباب في أوروبا ودول حوض البحر المتوسط"، كما يعرفه منظموه. ولعل تداول هذين النصين القديمين في المكان والزمان وفي معظم أشكال التعبير ترجما الى معظم لغات الحوض المتوسطي واقتبسا في السينما والمسرح، وتحولا الى اسطورة أدبية في الرواية والشعر... يجعل منهما حيّزاً ملائماً للحوار كعامل رئيسي للتفاهم والتواصل، وفرصة سانحة لترجمة الثقافات لا في المفهوم التقني التقليدي للترجمة بل في وصف هذه الأخيرة "جسراً يسمح بطرح أسئلة عن الهوية، والمرجعية، وتصور الآخر" بحسب تعبير المنظمين. يتجاوز عنوان هذا الملتقى الاشكالات الابداعية الصرف ويطرح مسألة "التنقل" نحو الآخر في كل معاني التنقل: أي أولاً تقبّل فكرة الخروج من الذات الوطنية الضيقة الأفق وهذا أمر بديهي تقتضيه عملية التنقل، إذ تتم من... الى... الى ما هو أكثر اتساعاً وغنى وثانياً: تقبل اختلاف الآخر ومحاولة فهمه والتعرف على ثقافته فيكون التنقل في معنى التداول وتفاعل المخيّلات... ونحن نعلم ان عمليات التنقل هذه تتحقق بالتأكيد في حيّز المكتوب والمسموع والمرئي. بيد أن مؤسسة "عبر أوروبا للثقافة" أبت إلاّ أن تضيف بعداً مكانياً الى عملية التنقل، ألا وهو التنقل فعلاً وعملياً نحو الآخر. ومن هنا، كانت مراكش حيّز ورشات ونقاشات عدة شاركت فيها مجموعة كبيرة من الحاضرين والباحثين والمبدعين تمت دعوتهم خارجاً عن المؤسسات الرسمية أي السياسية. فالبرنامج يستجيب لضرورتين، وفق قول منسقيه: "أولاهما إعادة البعد المتوسطي الى قلب الانشغالات والهموم الأوروبية في طريقة عملية، وثانيهما خلق مساحة غير رسمية للتعاون والتبادل الثقافي". فالمساحة المتوسطية تعد باختلافاتها الخصبة كلاً لا يتجزأ في اطار التبادل والانفتاح، إذ يستنكر المنظمون بصرامة استفحال فكرة "حرب الحضارات" الجاهزة، والتي تُجزّئ الحوض ايديولوجياً الى قطبين: شمال/ جنوب أو شرق/ غرب. هكذا إذاً، هُيئت الظروف المناسبة لجمع محاضرين في مختلف الميادين، نذكر منهم: ريتشارد بانلوفن مترجم الليالي الى النييرلاندية، عبدالفتح كيليو كاتب وأستاذ أدب عربي بالرباط، فتحي بنسلامه محلل نفسي تونسي مقيم في باريس، روجيه عساف مخرج مسرحي لبناني، رجاء بن شمسي كاتبة مغربية، رجاء بنسلامه أستاذة أدب عربي - تونس، جيل أبيج مصوّر فرنسي، فريد بلكاهية فنان تشكيلي مغربي: خوان غويتيسولو كاتب اسباني، جعفر الكنسوسي ناشر مغربي وناشط ثقافي... وبقدر ما تنوعت اختصاصات المحاضرين، تنوعت جنسيات أو ميادين عمل المشاركين القادمين من المغرب وتونس والجزائر وفلسطين والأردن ومصر ولبنان وتركيا واسبانيا وايطاليا وفرنسا. وهم نخبة من طلاب وطالبات ناهز عددهم الثلاثين، يعملون أو يبحثون في حقول الأدب المقارن والفلسفة والترجمة والمسرح والكتابة السينمائية أو التصويرية. وكان لا بد من أن تبين أن هذا التنوع أو التباين في الجنسيات واللغات وميادين العمل أدى بدوره الى إثراء النقاشات التي تناولت النصين المبرمجين من نواح عدة: موقف المرأة أنتيغونا وشهرزاد من السلطة الطاغية كريون وشهريار من خلال علاقتها بالكلام الوقوف في وجه السلطة والموت أو التحايل عليها والنجاة وعلاقتها بالقانون حافز الكرامة الانسانية أمام حافز المصلحة العليا، علاقتها بالانسانية تخليص جثة الأخ بدفنها أم انقاذ الأخريات... ومن هنا تأتي الأسئلة: ما الموقف الذي يجب تبنّيه اليوم أمام طغيان السلطة: التحايل أم المواجهة؟ الرفض والجرأة أم الاصغاء الى "حكمة المجنون" بحسب عبارة فتحي بنسلامه؟ موقف انتيغونا أم موقف شهرزاد؟ اختيار الموت أم تلافيه؟ فلسفة أنتيغونا أم فلسفة شهرزاد؟ وعالجت الكاتبة المغربية رجاء بن شمسي هذه الناحية تحديداً وأكدت أن مشروع بطلة "الليالي" الذي لا يتخذ له سلاحاً سوى الكلمة والخيال يؤدي الى تحرير فتيات بلدها بإبعاد حتمية الموت عنهن. بينما تختار البطلة الاغريقية الموت لأنها مقتنعة به وتعرف ما أدى بها اليه. غير ان رجاء بن شمسي أثارت جدالاً حاداً عند مقارنتها موقف الكائن العربي الاسلامي وموقف الكائن الاغريقي والغربي أمام مفهوم الموت. فإذا قبلت أنتيغونا الموت واختارته ودافعت عن اختيارها، فإن شهرزاد لا تأخذه في الاعتبار ولا تفكر فيه قطعاً. فشهرزاد "الكائن الهيدغيري" و"الذات الفرويدية"، تقول رجاء بن شمسي، بحكم دينها وثقافتها، منزوعة منها ملكية موتها. ولتوضيح فكرة عدم حرية الموت في الفكر الاسلامي، ذكرت الكاتبة ان روح الاباحة المتواجدة في "الليالي" تتميز بطور من المرح والتلذّذ المتسم بعدم الاكتراث بالموت بينما يتميز أدب الإباحة في القرن الثامن عشر الفرنسي بمواجهته الدرامية الدائمة لفكرة الموت. أما رجاء بنسلامة الجامعية التونسية فاستطاعت عبر مداخلتها "انتيغونات أخريات: المقبورات والقابرات"، أن تجد بعض أوجه التشابه بين أنتيغونا ونساء عربيات. فكون انتيغونا شخصاً يعبر عن "عشق الرحم"، بحسب لاكان، بدفاعها عن روابط الدم، يُمكِّن من مقارنتها بالخنساء وبمعجم العشق الموجود في رثائها لأخيها. وترى بنسلامة ان لوعة الخنساء بأخيها شبيهة الى حد كبير بلوعة انتيغونا بأخيها غير المدفون. وأشارت رجاء بنسلامه الى موضوع أساسي هو "حدود الترجمة"، ينصبّ مباشرة في مجرى اهتمامات الملتقى: ما الذي يُتداول و"يتنقل" فعلاً اليوم في الحوض المتوسطي؟ ما هو القابل للترجمة وما هو العصي على الترجمة؟ أين يأبى الخطاب الذاتي الانفتاح فيتقوقع على نفسه منتجاً العنف تجاه الآخر؟ أسئلة تأخذ في الاعتبار تباين اللحظة البعيدة لانتاج النصين المُبرمجين واللحظة الحاضرة لتلقيهما. أسئلة تطرح بدورها مسألة التناقض وتسمح تجاوزاً ب"مساءلة الحداثة" بحسب عبارة محمد بنيس. ويذكر أن جهود المشاركين في الملتقى الأول في طليطلة كانت سبقت في إلقاء الضوء بكثافة حول هذ التساؤلات التي تعمقت في مراكش: كيف يمكن تحقيق معادلة الانفتاح الكامل والتفاعل مع ثقافات مختلفة والتميز في الوقت نفسه بثقافة شديدة الخصوصية؟ ما هو الشكل الذي نريد أن نرى الآخر فيه، وكيف نكتشف صورته الحقيقية؟ كيف يمكن اكتشاف الآخر بعيداً عن أي إطار مسبق؟ ما هو السبيل الى تأسيس شبكة حوار تحقق علاقات ثقافية جديدة تتجاوز فكرة الحدود الجغرافية وتقوم ضدها؟ ولا تمنح هذه اللقاءات فرصاً لمساءلة النصوص أو الأعمال التراثية الموجودة فحسب، بل تشجع أيضاً أي ابداع جماعي ينطلق من روح الحوار والانفتاح وترجمة الثقافات. إذ أنتج المشاركون نصوصاً نظرية وأخرى مسرحية باللغتين العربية والفرنسية عالجت مواضيع مجددة مثل: "أنتيغونا اليوم"، اللقاء بين انتيغونا وشهرزاد وفق الطريقة البريشتية، لقاء شهريار وكريون، محاكاة ساخرة ل"الليالي" وتقديم شهرزاد كامرأة مصابة بالنسيان أو أنتيغونا خرساء، واضافة ليلة أخرى الى ألف ليلة وليلة وتضمينها أحد هذه السيناريوهات... وهكذا إذاً شكلت مدينة مراكش عالماً أندلسياً صغيراً ونصّاً خاصّاً وسياقاً مثالياً ومصدر إلهام للفكر وللخيال وللتبادل الثقافي الخصب الذي يلغي فكرة "صراع الحضارات والهويات" متجاوزاً إياها.