لا يؤمن أن يكون حكم القاضي التشيلي، خوان غوزمان، في مواطنه الطاغية أوغوستو بينوشيه، وهو قضى بجواز الملاحقة القضائية والتوقيف في حق قائد الجيش والمستولي على حكم التشيلي 1973- 1990، فاتحة اجتهاد قضائي يؤدي الى هدم الأسوار القانونية التي يكل الطغاة إليها حمايتهم من العدالة بعد تركهم السلطة ومقاليد الأمر المطلق. فمذكرة الإدانة، والإقامة الجبرية، الصادرة عن القاضي غوزمان في الأول من كانون الأول ديسمبر، تنقض قانون عفو عن جرائم القتل "السياسية" المرتكبة في الأعوام الخمسة الأولى من عهد الديكتاتورية العسكرية، أي بين 1973 و1978. وكان الحاكم العسكري، وقائد الانقلاب ورئيس الأركان "مدى الحياة" وهو اليوم في الخامسة والثمانين، استصدر في 1978 قانون عفو ألغى ملاحقة مرتكبي أعمال الإعدام من غير محاكمة. وبلغ عدد المفقودين في أثناء السبعة عشر عاماً التي دامها عهد "الرئيس" الجنرال 1198 مفقوداً يبلغ عدد اللبنانيين المفقودين نحو 16 ألفاً، وعدد العراقيين المفقودين نحو 80 ألفاً، وعدد الجزائريين 25 الى 40 ألفاً، وعدد السوريين بضعة آلاف... بحسب لجنة العفو الدولية. وبين الضحايا هؤلاء فئة مخصوصة هي فئة قتلى "قافلة الموت". وهم قتلوا في تشرين الأول اكتوبر 1973، غداة شهر على استيلاء العسكريين التشيليين على الحكم وقتلهم الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور آلْيَندي، وكان الخمسة والسبعون من السجناء السياسيين والمستسلمين الى السلطات العسكرية المحلية بعد مقتل الرئيس الشرعي وإعلان بينوشيه وصحبه الأحكام العرفية. ويرجح أن يكون بينوشيه أمر أحد كبار الضباط، الجنرال سيرجيو أرييَّانو ستارك، قتل الناشطين السياسيين الخمسة والسبعين في انحاء التشيلي كلها. والجنرال أرييّانو ستارك موقوف منذ بعض الوقت، إلى اللواء بيدرو إسبينوزا والعقيد مارتسيلو مورين. وينتظر الثلاثة المحاكمة حين يستكمل التحقيق. ويدين القضاء التشيلي، اليوم، الحاكم العسكري السابق بتهمة ارتكاب جرائم في حق الإنسانية في أثناء اضطلاعه بحكم الدولة والبلاد. ويخالف هذا أحكاماً سابقة، أشهرها قضاء محكمة نورِنْبيرغ في جرائم بعض القادة النازيين الألمان في 1946، تناولت جرائم في حق الإنسانية في أثناء أعمال حربية بين ألمانيا وبين دول أخرى. وكان سندُ الإدانة في الجرائم النازية في حق الإنسانية الإدانةَ السابقة بموجب حق أو قانون الحرب، وبموجب تشخيص جرائم حرب. وأخرجت هيئة المحكمة، يومها، أفعال الإدارات الأمنية والعسكرية في حق المواطنين الألمان، واليهود الألمان أعرض فئاتهم، من التهمة هذه ومن مسوغات الإدانة والتجريم. وجرى القانون الدولي العرفي وسنده الأعراف على حصرالجرائم في حق الإنسانية في ما ارتكب في أثناء الحرب الثانية أو بعد 1994 في قانون الجزاء الفرنسي. وهذا قرينة على توسيع ما يُفهم بالجريمة ضد الإنسانية وما يدخل تحت هذا المفهوم ويبلوره تدريجاً. فلا يبقى في وسع هذا الضرب من الحاكمين المتسلطين التذرع بصفة أعمالهم الداخلية والسياسية الى إنكار صلاحية القضاء في هذه الأعمال. وحين أصدر الحكم العسكري الديكتاتوري قانون العفو في 1978، وكانت المرحلة الاستثنائية طويت وانقضت حاجة الحكم الملحة الى أعمال من خارج الهيئات العادية، أمل في انصرام الملاحقة وبطلانها جراء تقادم الزمن على ارتكابها. وتلجأ السلطات وبعض الحركات السياسية والأهلية، على اختلاف أنظمتها، الى تسويغ العفو الذي تسميه عاماً بالموازنة بين الجرائم التي يرتكبها عمّالها وأهلها وموظفوها ومحازبوها وبين تلك التي يرتكبها المعارضون والحزبيون والناشطون السياسيون الملاحَقون. فتعفو قوانين العفو عن أجهزة الحكم الأمنية نظير عفوها عن الملاحَقين في محاولات الاغتيال أو في ترويع موظفي الأمن. ومثال هذه الموازنة مرسوم 1962 الفرنسي وقضاؤه بالعفو عما ارتكبه "الطرفان"، الفرنسي والجزائري، في أثناء سنوات 1954 الى 1962. وتدخل أفعال الجنرالات ماسّو وأوسَّارسْ وبيجار، الى غيرهم طبعاً، تحت هذا المرسوم. ولكن الطرفين غير متكافئين: فعلى حين قتلت الأجهزة العسكرية والأمنية عشرات الآلاف من الجزائريين، خارج الاشتباكات العسكرية والمعارك الحربية، اقتصر المقاتلون الجزائريون على أعمال اغتيال وبَيات تحصى بالمئات، على ما ذكَّر المؤرخ الفرنسي الكبير بيار فيدال - ناكيه قبل أيام قليلة. وقانون العفو التشيلي في 1978، شأن مرسوم العفو الفرنسي قبله في 1962، يعوِّل على القانون في سعيه الى طيّ الملاحقة والتعقب وإبطالهما. فيرد القانون دعاوى أهالي المفقودين والضحايا بذريعة وقوع الأفعال التي أدت الى فقد من فُقد ووفاة من قُتل في وقت حدَّه القانون، وقضى في الأفعال التي وقعت في أثنائه بإخراجها من التجريم. ويحسب "المشرِّعون" من أصحاب قوانين العفو، والحال هذه، أنهم في حمى القانون، على ما حسب بينوشيه، وعلى ما يحسب القادة العسكريون والمتقاعدون الفرنسيون، ويحسب من غير شك قادة كثر في بلدان قريبة وبعيدة من أقطار العالم اليوم. وهذا الحسبان خَلْخَلَهُ اجتهادُ القاضي الإسباني بالتاثار غارزون، وهو قضى بتعقب بينوشيه وأوقفه بلندن خمسمئة يوم، في تشرين الأول 1998، وحكم خوان غوزمان اليوم. فبلور القاضيان حكماً فيما سمّياه "الجريمة المستمرة". فالخمسة وسبعون ضحية التي قتلت في عملية "قافلة الموت" بقي 19 ضحية منها من غير جثمان، ولم يعثر على جثثها، ولم توارَ الثرى الى اليوم. فلا يجوز، بحسب اجتهاد القاضيين، أن تحصى الضحايا التسع عشرة في المتوفين والموتى "المنصرمين" ما لم تثبت وفاتها، ويثبت موتها. وعلى هذا فجريمة الخطف والإخفاء والتغييب ما زالت قائمة ولم تنقضِ بانقضاء زمنٍ لا إثبات على ابتداء انقضائه. والإثبات القاطع هو جسم الجرم وجسد الضحية. فإذا كانت الجريمة جريمة في حق الإنسانية - ويعرفها القانون الذي أنشأ محكمة نورنْبيرغ بأنها كل قتل، أو فعل أدى الى القتل وَقَع على فرد أو أفراد أو جماعة، وكان السبب فيه والباعث عليه إما عرق الضحايا أو الهوية التابعية الوطنية أو المعتقد الديني أو الرأي - إذا كانت على هذه الصفة لم يتقادم عليها الزمن، ولم يُبطل دوامَ صفتها. وإثبات صفة الجريمة في حق الإنسانية في جرائم الرأي التي ترتكبها الديكتاتوريات وأنظمة التسلط، على اختلاف مشاربها، ليس بالأمر العسير. فلما أقام أهالي المفقودين التشيليين 186 دعوى على أعضاء القيادة العسكرية التشيلية المستولية، قبل القاضي غارزون الدعاوى هذه. وها هو اليوم، والقاضي غوزمان، ومعهما اهالي الضحايا ومع هؤلاء ربما أهالي ضحايا القوات الفرنسية في الجزائر وأهالي المفقودين في بلاد كثيرة قريبة وبعيدة، يقطف ثمرة اجتهاده. فمن العسير، بعد اليوم، إطفاء مثل هذه القضايا "الملفات" في رطانتنا المحلية و"القومية" "نهائياً"، بذريعة أن إحصاء الأجهزة لا يقر إلا بهذا العدد، أو لم يُسلَّم غير هؤلاء، ومعهم تلويح ببعث الحرب "الأهلية" إذا لم يرضَ أهل المفقودين بالسكوت. أما ذريعة "الأمن" السياسي والاجتماعي، وذريعة "الشؤون الداخلية" والسيادة، وذريعة الظروف الاستثنائية، فلا تبطل الحقَّ في القضاء النزيه والعلني، ولا في مناسبة الأحكام الجرائم أو الجنح المنسوبة الى المتهمين والموقوفين. فعلى القضاء أن يتولى "إدخال أفعال كانت لولاه بقيت غير مفهومة، تحت التعقل والفهم"، وعليه أن يدرج مرتكبي هذه الأفعال في النظام السياسي الذي انتهكته أفعالهم، على ما كتب أحد مؤرخي محاكمة نورنْبرغ. فإذا لم يتولَّ القضاء مثل هذا الأمر عَدِم أهل المجتمعات المبتلاة علامات يهتدون بها في احكامهم، تحسيناً وتقبيحاً، و"خرجوا عن اللغة"، على قول ابن عربي في تعريف الشر. * كاتب لبناني.