الكتاب: الماء البارد الكاتب: أحمد ديبو الناشر: دار النهار - بيروت، 2000 يبدو للقارئ وهو يتصفّح المجموعة الأولى للشاعر السوري أحمد ديبو أن هناك فهماً واضحاً لشكل القصيدة وتكوينها اللغوي وترتيبها الإيقاعي والنثري. ثمة رصيد شعري يتجلّى في أكثر من قصيدة في الكتاب ويتحقق بنسب متفاوتة، ولكنه يدل على قراءات كثيرة واطلاع مثابر على التجارب الشعرية السابقة والمجايلة. هناك - وهذا واضح - استفادة مواربة ومباشرة من تلك التجارب، استفادة يعاد إنتاجها في محاولة لإبداء لياقة شعرية خاصة تجرّب تحويل النص الى أداء شخصي. ولكن على رغم جدية المحاولة الجديرة بالاهتمام في باكورة شعرية كهذه، يبدو أن دون ذلك عوائق عدة يأتي في مقدمها افتقار جودة الشكل الشعري الى جودة مماثلة في التركيب الداخلي للقصيدة ولحياتها الأسلوبية. فغالباً ما يعيق هذا الاهتمامُ بالشكل المرونة الممكنة التي يستطيع بحسبها أن يتحرك ويتنفس المعنى الشعري. الأرجح أن هذا قد يكون سبب قلة وضآلة المعنى في قصائد أحمد ديبو. هذا لا يعني أنها بلا معنى بالطبع بل يعني أن جهداً كبيراً بُذل في زخرفة القصيدة وإثراء لغتها وتلطيف عبارتها وتدوير مربعاتها، بحيث باتت القصيدة ناعمة ومصقولة الى درجة يصعب معها النفاذ الى قلبها، ويصعب - تالياً - تخيل ولمس روح القصيدة وراء هذه الستائر السميكة من التزويق اللفظي والصور المتتالية والتشبيهات الكثيرة: إنكِ/ كلمات الماء لثمر اللوز/ غرور النوم عند وسادتكِ/ الفجر للألم/ ومودة الطحالب للظل/ الفكرة في الصمت الموطوء بنباتات الرياء/ عصفورٌُ تضرّج بزهرة التحليق/ طفولة تتمرأى في غور الفجر/ موج ينقل المدّ البحري... ص 74. قصيدة كهذه تحتاج الى التخفيف من الحضور الخارجي للشكل كي ينبض المعنى ويصفو، كما أن هذه الصور معظمها مكشوف التأليف إذْ أن تركيبها الداخلي قليل وهش، وهذا ما يزيد من إعاقتها للمعنى ومن تغليفها السميك لنواة القصيدة وعالمها الداخلي، إضافة الى حضورها في نسقٍ تكويني واحد، الى درجة يثور فيها سؤال ملح وضروري عن هذا العالم الداخلي نفسه؟ أين هو؟ هل هو تتالي هذه الصور وتداعيات بلاغتها أم أن هذه الصور هي سطح هذا العالم وأطرافه وحوافه. سؤال يبقى بلا إجابة شافية في ظل إصرار الشاعر على تقليب موضوع القصيدة على أكثر من جهة وتعريضه الى وصف متكرر ومتنوع، محولاً انشغاله بها الى لعب لغوي وتجريب بلاغي، كأن يقول في سطر واحد: "أنحتُ تدفقكِ، أبعثر غيابكِ، أسكن خطواتك...". وهذا ما يمكن النظر إليه على أنه ثرثرة بلاغية ووسواس لغوي. فهذه اللغة، وبسبب قلة المعنى أو قلة شفافيته تبدو وكأنها تؤخر ظهور مغزى القصيدة وتؤجل طموحها ومقصدها الشعري. إنها لغة عامة تنتمي الى عالمها القاموسي أكثر من انتمائها الى استراتيجية شعرية تتحرك تحت سطح مفرداتها وعباراتها: "لتوّهم ينفضون السراب عن ثيابهم، أو يتبادلونه بلا وجه كشهوة". هذا مثال بين أمثلة كثيرة تبين غياب خطة استعمالية للغة. فإذا كانوا ينفضون السراب عن ثيابهم، فما معنى وما جدوى أن يتم تبادله - بلا وجه - كشهوة؟!! إن العلاقة بين أطراف هذا التشبيه غير واضحة وبالتالي غير مفهومة وغير ملموسة وهذا يساهم بحصة أخرى في سديمية المعنى ولا نهائيته. في المقابل، يتخفف أحمد ديبو في بعض القصائد القصيرة من الهجس اللغوي وحمولته اللفظية وتسنح الفرصة للمعنى كي يكشف عن مساحاته وأعماقه. ولكن هذه الفرصة تظل غير كاملة لأن الشاعر لا يكتب هذه القصائد بنفس واحد. صحيح أنها قصائد قصيرة في طولها وشكلها ولكنها مكتوبة بروحية القصائد الأخرى الأطول في المجموعة. كأن الشاعر يصعب عليه التخلي بشكل كلي وحاسم عن أسلوبيته ومزاجه اللغوي. الأرجح أن ما يكتبه أحمد ديبو يحتاج الى الاكتراث قليلاً بلغة الحياة العادية وسرديتها وقوة تفاصيلها مقابل هذا الإمعان العميق والمتواصل في اللغة وشؤونها البيانية. أحمد ديبو الذي يفصح في مجموعته الأولى عن دراية شعرية معقولة وعن بداية يتجاوز فيها الكثير من هنات البدايات، ربما تتطور تجربته اكثر في الإصغاء الى تقنيات الشعر اكثر من بيانات اللغة.