"ولادة" الرئيس الجديد في روسيا بدأت بمخاض عسير اسفر في اليوم الأخير من العام الفائت عن قرار استقالة بوريس يلتسن ونقل الصلاحيات الى فلاديمير بوتين. بيد ان "القابلة" لم تقطع حبل السرة حتى بعد الانتخابات الرئاسية التي سجلت تفويضاً شعبياً لبوتين لم يكن ليحلم به سلفه. وظل عدد من رموز العهد اليلتسني في مواقعهم وبقي يلتسن نفسه يشغل قصراً رئاسياً ويحتفظ بمكتب في الكرملين ويتلقى نسخاً من التقارير السرية ويستقبل اسبوعياً وزيري الدفاع والداخلية، ويقدم "النصح والمشورة" لكبار رجال الدولة بمن فيهم رئيسها. وبذا فإن حبل السرة لم يعد مصدراً للحياة، بل صار انشوطة تلتف حول عنق "الوليد" الرئاسي، واخذ بوتين يسعى الى قطعه واعلان "براءة الذمة" من عهد حرم روسيا من موقعها كدولة كبرى وهدم اقتصادها وترك الغالبية الساحقة من ابنائها عرضة للجوع والمرض والبطالة، بل انه حكم عليها ان تبقى تسعة أعوام من دون رموز شرعية. فالعلم ذو الألوان الثلاثة والنسر ذو الرأسين ونشيد "غلنيكا" اعتمدت جميعاً بقرار تعسفي رئاسي لم يوافق عليه اي من البرلمانات المتعاقبة التي كانت الغالبية فيها ترفض رموزاً تعتبرها قيصرية. وقدم بوتين حلاً وسطاً يبقي على العلم والشعار المعتمدين بعد انهيار الدولة الموحدة، والعودة الى السلام الوطني السوفياتي بعد تغيير كلماته. وصادقت الهيئة الاشتراعية ب381 صوتاً مقابل 51 صوتاً على هذا المشروع التوفيقي، الا ان "الديموقراطيين" الذين اعتادوا خلال السنوات العشر الماضية على فرض آرائهم ، جهروا هذه المرة بعدائهم لبوتين. بل ان أحد أكبر أقطابهم، اناتولي تشوبايس، خاطب رئيس الدولة قائلاً: "انك والشعب على خطأ". هكذا الديموقراطية وإلا فلا! وشنت وسائل الاعلام، ومن ضمنها الحكومية، حملة ضارية ضد بوتين انضم اليها يلتسن الذي أعلن "معارضته الشديدة" لمقترحات خلفه وعرض ان يتولى شخصياً... كتابة كلمات وموسيقى سلام جديد. ويا سلام على هذا السلام! والأكيد ان المشكلة لا تنحصر في الرموز ومدلولاتها. فالأهم من ذلك ان قرار بوتين كان لبنة أولى في صرح وفاق وطني وبالتالي فإنه مسمار يدق في نعش الحقبة اليلتسنية التي عنت الفرقة واحتكار السلطة من جانب زمرة ضئيلة حققت ثروات خيالية على خلفية ادقاع مريع. والقرار ناقوس خطر يدق لمن نهبوا من دون حسيب أو رقيب، اذ ان بوتين أبلغهم رسالة مفادها "انني لست منكم"، وبالتالي افهمهم انه قد يفتح ملفات كان المساس بها محظوراً. وقطع حبل السرة قد يعني استقطابات جديدة تدفع الراديكاليين اليمينيين الى المعارضة السافرة، وتمهد لتقارب بين بوتين وقوى اليسار والوسط. واخيراً فإن قبول الرموز الجديدة مؤشر الى ان السلطة اخذت تبرأ من صمم أصابها تسع سنوات، وصارت تسمع صوت الشارع وتستجيب له وتستند اليه وتقبل ان تكون "هي والشعب على خطأ".