قرار رئيس الوزراء المغربي عبدالرحمن اليوسفي منع ثلاث اسبوعيات دفعة واحدة يطرح اشكالية التوفيق بين التزام المبادئ والدفاع عن مصالح الدولة، لكن صدور الموقف من مناضل حقوقي ذاق السجن والمنفى، ووضع يده على الجمر حين كان رئيس تحرير صحيفة حزبه في بداية الستينات، يبعث على السؤال عن الممكن والمستحيل في الممارسات الاعلامية والسياسية. فاليوسفي لا يزال مديراً لصحيفة "الاتحاد الاشتراكي" ينشغل بهموم الصحافة كما بهموم المسؤولية الحكومية، وتبريره اتخاذ القرار على مضض يعني انه لم تكن امامه حلول اخرى يمكن ان تجنب الحكومة مأزق التورط في ممارسات كانت تندد بها حين كانت اطرافها الاساسية في المعارضة. لكن التبرير ذاته يفضح ضيق المسافة بين السلطة والمعارضة. ولا يبدو ان كل الكلام الذي قيل عن توسيع هامش الحرية على عهد حكومة اليوسفي يصمد امام انتكاسة من هذا النوع. لذلك، فالارجح ان التلويح بوجود خطة ل"زعزعة استقرار البلاد وتعريض المؤسسات للمساس" كان يغلب الجانب السياسي على الالتزام المبدئي. ومن هنا تحديداً يفهم لماذا ابتعدت بقية اطراف التحالف الحكومي عن "الاتحاد الاشتراكي" في مجاراة قرار المنع بحسابات سياسية دقيقة. لا يعني الكلام عن الامكانات المتاحة لناشري الاسبوعيات للجوء الى القضاء سوى ان قانون الحريات العامة في المغرب - الذي يمنح رئيس الوزراء، كما وزير الداخلية، سلطة منع الصحافة بتقدير انها تمس الامن العام او الاستقرار او تنتهك المقدسات - يبدو سابقاً لحكم القضاء. وكما ان الضرر الذي اصاب الناشرين يتوازى والضرر الذي اصاب الحكومة، فإن حكم القضاء يمكنه ان يحسم الاشكالية ولكن بعد فوات الاوان. وربما كانت الحاجة ماسة الى معاودة النظر في بنود الحريات العامة اكثر منها الى البحث في "ميثاق شرف" يجنب العلاقة بين الصحافة والحكومة مزالق استعراض العضلات. ظاهر الازمة انها تطاول حرية الصحافة، لكن باطنها ان المدى الذي يمكن ان تصله الممارسات الصحافية غير محدد المعالم. وكما ان شعار الانفتاح وفتح الملفات كان وراء المغامرات الاعلامية باضاءة فترات حالكة في تاريخ البلاد ضمن مايعرف ب"مؤامرة اوفقير"، فإن القدرة على تقبل ضريبة ذلك الانفتاح بدت أقل من المتوقع، وهذا شيئ طبيعي في صراعات المواقع. يحق لليوسفي ان يعتبر ان حكومته هي المستهدفة وان تأمين الانتقال الديموقراطي اصبح عرضة للمخاطر، لكن بالقدر نفسه يحق للحالمين بتوسيع فضاء الحريات ان يعتبروا ان لا حدود امام البحث عن الحقيقة، الا ان نسبية الحقيقة هنا تلوّن المواقف حسب المصالح، ويحتاج الموضوع في اقل تقدير الى مرونة اكبر يلتزمها اهل القرار ورجال الصحافة على حد سواء. في المعادلة بين حرية الصحافة ومسؤولية الحرية يكمن الحل، ليس افضله لكنه الاقرب الى التقبل. وما حدث في المغرب هو ان الانفلات الاعلامي بات ينظر اليه كأنه نذير انفلات سياسي. وما يصفه البعض انه اكذوبة كبرى في هذا النطاق، قد لايكون كذلك من موقع التعاطي والشأن العام، لكن الضريبة التي دفعها ناشرو الاسبوعيات الثلاث ليس اكثر من نتاج تمارين سابقة عبّأت الرأي العام ضد اي مساس بحرية الصحافة، فليس عيباً ان تكون احزاب للمعارضة السابقة استخدمت الصحافة ضغوطاً في مواجهة الحكومات المتعاقبة، لكن العيب يكمن في نفاذ صبرها في موقع الحكومة ازاء ممارسات اعلامية تتوق للافادة من اجواء الحرية. بيد ان السؤال يظل مطروحاً: ما العمل في حال تجاوز الخطوط الحمراء؟ فمن صميم مسؤولية الحكومة ان تضمن الامن وترعى الاستقرار لكن من صميم مسؤوليات الصحافة ان تنقل الحقائق وتستجيب للحق في المعرفة وتدفق المعلومات الصحيحة. احياناً تتغلب السياسة على الصحافة. فالحكومة، اي حكومة، تقبل الانتقاد حين يصدر عن خصوم سياسيين في اطار اللعبة الديموقراطية ما دام ان هدفه يراعي الوفاق حول سقف الممارسات الديموقراطية. وربما جاز اعتبار مشكل الاسبوعيات الثلاث انها سعت. ارادت ام لم ترد، الى ان تتحول الى حزب او تيار خارج معادلة الحكومة والمعارضة. وقد يكون قلق اليوسفي مصدره الانزعاج حيال هذا الانفلات. ثمة حقيقة يجهر بها سياسيون مغاربة هي ان الصحافة في الجزائر ادخلت بلادها في نفق مظلم، وقد يصبح الاحتراز من تكرار تجربة الانفلات مبرراً مقبولاً امام حكومة اليوسفي. فقد عرف عن الرجل انه اقل تسرعاً واكثر تأملاً، لكن بين فترات التأمل قد يحدث اختراق ما، وعيون المغاربة لا تحيد عن التجربة الجزائرية في اي حال.