في قضية لا تدعو الى القلق، ينجذب المغرب الى صراع ليس من صميم معركته، أقله أنه يلوح بشعار البلد الذي هو بصدد إرساء مقومات دولة الحق والقانون. وفي الوقت ذاته ترتفع أصوات تعيب على السلطة ممارسات تصفها بالتضييق على حرية الصحافة. وانها لمفارقات أن تكون التجربة التي هدفت الى تحسين سجل البلاد في احترام حقوق الإنسان، وطي صفحات الانتهاكات، وايلاء أهمية أكبر للنهوض بأوضاع النساء، والتصديق على المعاهدات الدولية التي تحظر التعذيب، قد آلت الى صراع يكاد يكون هامشياً حول الممارسات الصحافية، طالما ان الأصل فيها هو جدلية الحرية والمسؤولية. يفهم من إثارة اشكالات المسألة الإعلامية في المغرب أننا أمام أمرين، اما أنه لم يتم التعود على المشي في الطريق السليم، وتصبح بعض ردود الأفعال جزءاً من تمارين طويلة المدى تحتم الاحتكام الى النضج التدريجي الذي يأتي في ضوء تراكم التجربة. وأما أن تعريف مناخ الحرية يغلب عليه التسرع والاندفاع وتصبح النتيجة في غير ما يراد من تكريس قيم الانفتاح والحداثة. وفي الحالين معاً لن يكون الارتداد مقبولاً، أياً كان مصدره. والأفضل في مواجهة الكبوات العابرة أن تترك للقضاء صلاحيات الحسم في أي تجاوزات. فالعيب ليس في التئام محاكمات للبت في النزاعات التي تحدث بين السلطة وبعض الصحافة. أو بين الأخيرة ومن يعتبرون أنفسهم متضررين من بعض تصرفاتها، ولكنه في عدم الإفادة من فرص التصحيح التي تتيحها التجربة للأطراف كافة. في أي مسار ناشئ ثمة من يدفع الى الغلو والتشدد، وثمة من يراهن على الاعتدال والحكمة، والمخاطر التي يمكن أن تهدد حرية الصحافة لا تأتي من ارتكاب الأخطاء العابرة فقط، وانما من تغليب النزعات السلبية على ما عداها من إيجابيات. فالهدم أسهل من البناء، ولم يثبت انه استغرق وقتاً أطول كما في الجهود التي تهدف الى ترسيخ قيم التطور. اعتذر بعض الصحافة المغربية عما صدر عنها من أخطاء في التعاطي مع بعض الأحداث، كما في قضية الوعكة الصحية التي تعرض لها العاهل المغربي الملك محمد السادس. وأصدر القضاء أحكامه. غير أن الاشكالات المطروحة لا تنتهي عند هذا الحد. فلا شيء يضمن عدم تكرار المؤاخذات، فعلى امتداد السنوات العشر الأخيرة شكلت المسألة الإعلامية في المغرب أبرز فضاءات الضوء والعتمة في الآن ذاته. ما يعني أن خللاً ما يفرض سطوته، إذ يتصور الأطراف كافة أنهم حسموا في الأمر. أبعد من تداعيات الممارسات الإعلامية التي تصيب وتخطئ ان معادلات التوازن السياسي في المغرب تأثرت سلباً بالفراغ الكبير الذي أحدثه انتقال الأحزاب الرئيسية في المعارضة السابقة الى دفة الحكم. فقد جرى الإعداد لذلك بطريقة هادئة انتزعت التقدير، لكن لم يحدث تحضير مواز لذلك الانتقال على صعيد ملء المقاعد الشاغرة في المعارضة. وكان طبيعياً أن تنقض بعض الصحافة على فرص مواتية بهذا الحجم تتيح لها الانتشار ودغدغة المشاعر. كما كان طبيعياً أن تنفذ الى عالم الصحافة قوى ورؤوس أموال، وحتى مغامرون كما في أي فراغ تمقته الطبيعة. وربما كان مصدر الخلل في التجربة ان حروب المواقع الاقتصادية والسياسية بدأت بالتزامن وتحول الأدوار. ما لم ينتبه اليه أحد ان رجلاً في حجم نزاهة وصدقية رئيس الوزراء المغربي السابق عبدالرحمن اليوسفي دق يوماً ناقوس الخطر إزاء "الانفلات" المحتمل في أدوار الصحافة. فقد ارتضى لنفسه وهو الذي عاش في المنفى وذاق عذابات السجون دفاعاً عن حرية الصحافة أن يشطب بعضها من الوجود. بيد أنه وضع سلاحه ومضى في صمت. وقتذاك وقبله كانت هناك رؤوس مطلوبة. وكان أحد كبار المسؤولين المغاربة يردد: دعوا الناس يتحدثون جهاراً وبلا قيود. غير أنه بين الكلام المسموع والإيحاءات الصامتة تبددت خطوط وتراجعت مفاهيم، وأصبحت بعض الصحافة ضحية نفسها بعد أن كانت ضحية استخدامها. ذلك أن الكتاب المفتوح بعنوان أزمة بعض الصحافة انما يختصر أزمة من نوع آخر. انها أقرب الى العقدة الأخيرة التي تحمل معها الحلول. وقضية الصحافة في المغرب لا يمكن اختزالها بالحاجة الى أوكسجين حرية زائدة أكبر من جرعة الدواء التي يتطلبها ألم بسيط يعيق تقدم الخطى الى الأمام.