خلاصة الانتخابات الرئاسية الاميركية هي اهمية الجاذبية والقدرة على حسن التواصل وموهبة اختيار الفريق وملامح التواضع والثقة والشخصية المريحة العازمة على الجمع بدل التفرقة. هذه عناصر سطحية في الاعتبارات التقليدية للدول العادية عند انتخاب رئيسها. لكن الولاياتالمتحدة ليست دولة "عادية" وانما هي دولة عظمى في حال ازدهار ورخاء وشعور عارم بالقوة بلا تحديات صعبة وبلا قضايا ملحة. لذلك، في استطاعتها ان تختار رئيساً على اساس شخصيته. اميركا في حال توافق عام وانقسامها ليس عدائياً أو مبدئياً أو فكرياً أو جذرياً. وعقابها لنائب الرئيس آل غور، الذي كان يفترض منطقياً ان يفوز بالرئاسة بأكثرية ساحقة من الاصوات، ليس عقاباً على مواقفه وكفاءاته وانما على الاصطناع والغرور في شخصيته وعلى ترفعه عن مخاطبة اميركا بلغتها، لغة الارتياح والتفاؤل. فهذا الرجل حاول وتأقلم وتبدل كي يصبح محبوباً، لكنه بقي في رأي الاكثرية ثقيلاً وبارداً ومزعجاً. فعنصر الشخصية ليس عابراً في معادلات الحكم والانتخابات في أي مكان في العالم. ومن السطحية النظر الى التجربة الاميركية الأخيرة بسخرية وتهكم. لولا شخصيته، كان منطقياً ان يكسب آل غور الأكثرية الساحقة من الاصوات الانتخابية رئيساً. ذلك ان الوضع الاقتصادي جيد واميركا غارقة في شعور بالارتياح مع انتهاء ولايتين للرئيس الديموقراطي بيل كلينتون اللتين خدم فيهما غور نائباً للرئيس لثماني سنوات. انه السياسي المعروف والممتحَن، والرجل الذي يكرس نفسه للعمل الدؤوب، والذي تسلق السلم السياسي درجة درجة. وهو ايضاً الرجل العائلي المخلص والنظيف ورجل الحزب الذي يحسن اللعب بقواعده. ذكي ومثقف وقارئ ومهتم ووسيم، بل انه في رأي الذين يعرفونه شخصياً لطيف وقريب من القلب وطبيعي عكس الانطباع السائد بأنه "آلي". عدم حصوله على دعم الأكثرية الواضحة من الاصوات تجعل آل غور خاسراً حتى ولو جاءت الأيام المقبلة بمفاجأة مستبعدة تعطيه أصوات ولاية فلوريدا ومعها الرئاسة. فهو خاسر، أولاً، لأنه فشل في استراق الرئاسة بلا تردد نظراً الى الأسباب المنطقية التي تعطي اوتوماتيكية الانتصار لنائب الرئيس في وضع مزدهر ورخاء اقتصادي. وهو خاسر، ثانياً، لأنه كشف جانباً اضافياً من شخصيته ما بعد الانتخابات. حتى بعض الذين صوتوا لآل غور بدأ يعيد النظر في اسباب إدلائه بذلك الصوت بعدما أطلع على ناحية المرارة والعناد والهوس في شخصية غور. الاكثرية الاميركية تريد الآن ان تننتهي من قصة فلوريدا، وكثير من الذين صوتوا لغور يريدون الآن ان يكفّ مرشحهم عن التحدي والقتال. استخدم غور كلمة "سأحارب" أو "سأقاتل" من أجل هذا أو ذاك في كل مناسبة أثناء الحملات الانتخابية والمناظرات التلفزيونية. واعتبر الأمر عادياً في رأي البعض، لكن نبرة الحرب والقتال التصقت بالرجل وظهرت سلباً اثناء معركة ما بعد الانتخابات. انها نبرة الانقسام وتعزيز العداء، واميركا ليست في وارد الانتقام والانقسام، وانما تريد أولاً جمع الصفوف وصياغة الاجماع وتعزيز الوحدة كي تبقى رائدة ومزدهرة وعظمى. جورج دبليو بوش ليس نابغة، لكنه يمتلك موهبة الجمع والاجماع. ومنذ البداية تحدث بوش بهذه اللغة، لغة الوفاق وأهمية القيادة، وضمن الاجماع بعيداً عن القتال والتفرقة والفوضى والعداء. الانطباع السائد عنه انه غير معني بالكتب والعلم، وعلاقته بالقراءة والاطلاع محدودة. يقال ان ذكاءه لا يقارن بذكاء غور، وان سجله ضئيل امام سجل غور في الشؤون الداخلية والدولية. لكن الذين يعرفونه شخصياً يصفونه بأنه ذكي جداً رغم انه ليس مثقفاً في الصميم، وهم يعتبرون صفات "الغباء" التي وصمت بوش من صنع الحملات الانتخابية. صناعة جورج دبليو بوش على أيدي المؤسسة الجمهورية ارتكزت اساساً الى شخصية الرجل وعملت على صقلها بمزيج من الجاذبية والقيادة. موهبته الأساسية هي بناء العلاقات في اطار التوافق والاجماع واحاطة نفسه بفريق مميز واعتماده على آراء المستشارين والأخذ بنصائحهم. فهو، على عكس غور، ليس منصباً على نفسه ولا مغروراً بقدراته ولا مهووساً بصحة آرائه الشخصية. واميركا تريد ذلك تماماً. انها دولة المؤسسات وتعدد الكفاءات وتفضل مساهمة الفريق في صنع القرارات على تسلط فرد واحد عليها. أميركا ليست في حاجة الى نابغة سياسية في شخص رئيسها، ولا الى صياغة توجه جديد أو مواجهة تحدٍ كبير أو معالجة أزمة ملحة أو محاربة عدو واضح. انها تفضل حكم الفريق للاستفادة من الكفاءات وللتمكن من الشفافية والمحاسبة، والأولوية لديها هي لجمع الصفوف والمضي بإجماع. وجاذبية الشخصية مهمة في هذا الاطار. هذه ليست مناسبة فريدة لتألق الشخصية. فما يسمى بعنصر "الكيمياء" في العلاقات لا يستهان به في أمور علاقات الدول عبر قادتها، وهو لم يخترع بالأمس لتكون مكانته في اعتبارات الانتخابات الاميركية مذهلة. أوروبا المغرورة بتاريخها وثقافتها اعتادت مراراً ان تنظر الى التجربة الاميركية بازدراء وبعض التحقير. لذلك سارع كثير من المعلقين والمنظّرين الى الاستهزاء باختيار امثال جورج دبليو بوش لمنصب الرئاسة كما سخر من العملية الانتخابية نفسها وبالأزمة التي قبضت على اهتمام العالم كذلك في ما يسمى بالعالم الثالث حيث وقعت مباراة في التهكم افتقدت أسس فهم التجربة الاميركية. لا. هذه ليست "جمهورية موز"، ولا هي دولة عظمى في تخبط وانقسام جذري، ولا هي أمة جاهلة، وأميركا ليست في أزمة. وعلى رغم الارتباك الذي حصل في ولاية فلوريدا وافتقاد هذه الدولة العظمى الخارقة في التكنولوجيا لآلية تصويت موحدة عصرية، فإن الولاياتالمتحدة لن تكون بلا رئيس عند مغادرة بيل كلينتون البيت الأبيض في 20 كانون الثاني يناير. والدستور الاميركي الذي وضع الأسس الانتخابية لن يُمس، والبلد في خير وتعافٍ مهما سقطت البورصة لأسباب ذات علاقة بالانتخابات أو بغيرها. هذه التجربة ستؤدي الى التدقيق في كيفية تطوير العملية الانتخابية التقنية وتوحيد آلية التصويت، لكن من المستبعد ان تؤدي الى تعديل الدستور بما يزيل اسلوب "المجمع الانتخابي" ويستبدله بالصوت المباشر لانتخاب الرئيس. هذه التجربة اثبتت قيمة كل صوت وستؤدي مستقبلاً الى اقبال الاميركيين على التصويت بأعداد أكبر. فلقد مارس حق التصويت 50 في المئة من المؤهلين للتصويت هذه المرة، والأمر سيختلف المرة المقبلة. لكن اسلوب "المجمع الانتخابي"، الذي يعطي كل ولاية عدداً من الاصوات يساوي عدد ممثليها في الكونغرس، سيبقى الاساس لأن الدستور وضعه لأسباب حيوية مهما صعب على الناس العاديين فهمها. ويخطىء من يقفز الى معادلة الاصوات الشعبية مقارنة بالأصوات الانتخابية التي يمثلها "المجمع الانتخابي" ليستنتج ان آل غور يستحق الرئاسة لأنه كسب اكثرية الاصوات الشعبية. ذلك ان عدد سكان كل ولاية يختلف عن الأخرى. كذلك عدد الاصوات الانتخابية المخصصة لها. وفي بعض الاحيان تُحسم ولاية لمصلحة مرشح بسبب توجهاتها وتركيبتها السكانية فيقرر الناخب فيها ألا يدلي بصوته لأن مرشحه البديل لن يفوز على أي حال. وكمثال، فإن نيويورك، بسبب انتمائها التقليدي للحزب الديموقراطي واهمية الصوت اليهودي فيها حُسمت باكراً لمصلحة غور، اذ أقبل المصوتون له على الاقتراع، فيما تخاذل الداعمون لبوش لأنه لم يكن سيكسب الولاية في أي حال من الاحوال. ولذلك، كسب غور قدراً ضخماً من الاصوات الشعبية في هذه الولاية. تجربة فلوريدا ملفتة بسبب ذلك الفارق الضئىل في الأصوات، الذي يسلط الضوء بدوره على آل غور في ظل سلبي. اذ جند مرشحه لمنصب نائب الرئيس، جو ليبرمان، لضمان الصوت اليهودي المهم في الولاية، ورغم ذلك فشل في الحصول عليها فيما كان يفترض ان يكسبها بأكثرية واضحة. الملفت ايضاً ان بين الديموقراطيين الاعضاء في مجلس الشيوخ من هو في غاية الاستياء من جو ليبرمان لأنه رفض التنحي عن منصبه في مجلس الشيوخ وهو يخوض المعركة كنائب رئيس مرشح ما حجب عن الديموقراطيين مقعداً كان سيعطيهم الاكثرية. فإذا كسب غور المعركة الرئاسية، ستكون الاكثرية للجمهوريين اذ ان حاكم ولاية ليبرمان ينتمي الى الحزب الجمهوري، ومن صلاحيته تعيين بديل جمهوري لليبرمان في مجلس الشيوخ. وهذا يعطي 51 مقعداً للجمهوريين مقابل 49 للديموقراطيين، في حال انتصار الديموقراطيين بالرئاسة، بسبب ما يسمى ب "عنصر ليبرمان". وهناك استياء من يتعالى على كل هذه الاعتبارات ويرتكز في قراراته حصراً على القانون والعدالة. هذا البعض، وقد يكون أكثرية أو أقلية، يرى ان لا حاجة الى القفز لاختيار الرئيس المنتخب ولتأخذ العدالة وعملية التعداد مجراها. فبيل كلينتون رئيس صالح لا حاجة لطرده آنياً من البيت الأبيض، واميركا ليست في حاجة ماسة الى حسم من هو الرئيس المنتخب. فأحدهما سيكون رئيساً والبلد ليس في أزمة حقيقية. البعض الآخر بدأ يشعر بالإرهاق والملل من تفاصيل قصة فلوريدا ومعظمه بدأ يفقد صبره مع آل غور ويريده ان يكف عن الصراع والقتال على رغم التعاطف معه. فهو رجل أمضى حياته في حال استعداد وتهيئة لمنصب الرئاسة ولم يرتكب اخطاء فادحة. انه ضحية شخصيته التي تفتقد نعمة الجاذبية والدفء و"الكيمياء". هذا لا يعني ان الرئاسة حُسمت لمصلحة بوش. اما اذا كانت المؤشرات الحالية دليلاً، فإن رئاسة بوش ستأخذ اميركا في طريق الوفاق والائتلاف والتركيز على أولوية المصلحة والرخاء والعظمة الاميركية. فالأميركيون، كما اثبتت العملية الانتخابية ليسوا في شغف وهيام بالقضايا الدولية، واهتمامهم بالسياسة الخارجية عابر. رئاسة بوش لن تلعب دور البوليس في العالم، ولن تتدخل إلا اذا تعلق الأمر بمصلحتها الوطنية المباشرة. وهي ستتناول القضايا الاستراتيجية المهمة وتترفع عن ادارة القضايا الاقليمية حتى وان كانت بأهمية الشرق الأوسط. فريق بوش يتمنى ان يبقى كلينتون "غاطساً" في موضوع الشرق الأوسط حتى آخر يوم من ولايته، ويتمنى له صدقاً كل نجاح. ذلك ان فريق بوش يود ألا يرث وضعاً مشتعلاً ويفضل ان ينال كلينتون الشهادة بتحقيق انجاز تاريخي على تسلمه الملف بهذا المقدار من اللااستقرار. اما اذا ورث الوضع بما هو عليه، فإن فريق بوش سيبعد الرئيس عن الملف بقدر المستطاع ولأطول فترة ممكنة، وسيرحب بمساهمة اللاعبين الآخرين من دون استفراد اميركي، وسيتجنب ادارة الأزمة مع تركها اساساً للاطراف المعنية الى حين الاضطرار الى غير ذلك. بالنسبة الى منطقة الخليج، ستعزز رئاسة بوش العلاقة الاميركية - الخليجية علماً بأنها مؤسسة عبر جورج بوش الأب وبسبب الخلفية النفطية للطرفين. اما العراق فإنه سيبقى مشكلة كبيرة يود فريق بوش تجنب التعاطي معها بصورة مباشرة إلا اذا اضطر، وقد يرحب بتراكم التطورات الايجابية عبر الاممالمتحدة بما يسمح لاحقاً بسياسة جديدة بعيدة عن الاضواء والبيانات الرنانة. وقد تكون العلاقة الاميركية - الخليجية اكثر الأمور تأثيراً في السياسة الاميركية نحو العراق. فإذا كانت البيئة الاقليمية في وارد التعايش مع بغداد، فإن فريق بوش لن يقاومها ويزايد عليها. ستبقى اسرائيل دائماً الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة بغض النظر عن هوية رئيسها. لكن رئاسة بوش غير رئاسة غور لجهة التفاصيل المهمة في العلاقة، ليس فقط لأن ليبرمان يهودي وانما لأن غور اكثر تعصباً من ليبرمان عندما يتعلق الأمر باسرائيل. فإذا ما أصبح بوش رئيساً قد لا تكون العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك حميمة بسبب اختلاف شخصية الرجلين. فبوش يتمتع بحدس فهم منن يتعامل معهم ولن يكون صعباً عليه ان يكتنه حقيقة شخصية باراك المفعمة بالازدواجية والتناقض والتلاعب مع القدرة على العنف والقمع والانتقام. فالأكثر تناغماً مع شخصية بوش شخصية مثل وزير العدل الاسرائيلي يوسي بيلين، ففيها من الجاذبية والرغبة في التوافق ما يقربها من شخصية بوش. ولعل الانتخابات اللاسرائيلية المبكرة تفرز مرشحين غير باراك وارييل شارون وبنيامين نتانياهو. لعل بيلين يفكر في خوض المعركة بأجندة "ائتلاف السلام" ويضمن 400 ألف صوت عربي داخل اسرائيل الى جانب الاكثرية الاسرائيلية الواعية والصامتة الى الآن. أما الآن، فالأولوية للساحة الاميركية. وقريباً جداً ستتوقف التنبؤات وسينسى الجميع حكاية انتخابية اثارت الفضول والادمان عليها. فأحد الرجلين سيصبح رئيساً والآخر سيكون إما بطلاً وطنياً أو خاسراً تأكله المرارة.