فبادئ ذي بدء لا يعني النقاش أن القاهرة تصبح مسؤولة عن مؤتمر القمة لمجرد أنه انعقد على أرضها وبدعوة منها. مصر خارج المؤتمر، وفي المؤتمر نفسه، لها رؤيتها المحددة التي يمكن الاتفاق معها أو الاختلاف عليها. لكن مصر داخل المؤتمر هي صوت واحد من 22 صوتاً يتساوون جميعاً في المسؤولية عن طبيعة ومضمون البيان الختامي. وفي أي عمل جماعي من هذا النوع تجري الحلول التوفيقية ما بين أضعف حلقات السلسلة وأقواها. في هذه الحدود ربما كان شيئاً ملفتاً تماماً أن الموقف الجماعي لمؤتمر القمة لم يجيء منفصلاً فقط عن زلزال الغضب في الرأي العام العربي، ولكنه جاء أيضاً أضعف كثيراً من مواقف أطراف فاعلة في النظام العربي. الوضع هنا مقلوب تماماً. لكنه ليس الوضع الوحيد الشاذ في كل ما يجري. ووجه المفارقة هنا هو أن مواقف السعودية وسورية ومصر مثلاً يمكن فهمها من كلمات ممثليها في مؤتمر القمة أكثر مما يمكن فهمها في بيان القمة ذاته. ولو ارتكز نقاش المؤتمر مثلاً على تحويل كلمة الأمير عبدالله ولي عهد السعودية إلى برنامج عملي، لجاءت النتيجة أكثر تعبيراً عن التيار العربي الأساسي في الظروف الراهنة. وفيما بعد المؤتمر قال عمرو موسى وزير خارجية مصر إن عملية السلام بشكلها الراهن قد انتهت وأن أحداً لا يوافق على العودة إلى مائدة التفاوض طبقاً للقواعد السابقة، وإن العالم العربي يجب أن يقرر إطاراً جديداً ونهائياً للتسوية حسب المنظور العربي. لو كانت تلك الرؤية هي أيضاً التي انطلقت منها نقاشات القمة لخرج المؤتمر بنتائج مختلفة تماماً عن ما جرى فعلاً. الشيء نفسه بالنسبة لسورية. وبينما ذهبت السعودية إلى المؤتمر تطلب "التوقف عن إقامة أية علاقات مع إسرائيل وإلغاء أي نوع من العلاقات أو الصلات التي نشأت في ظل عملية السلام" وتطلب تحميل الولاياتالمتحدة مسؤولية خاصة في الانهيار الذي تواجهه عملية السلام، فإن ياسر عرفات مثلاً عبر عن كل التقدير والامتنان للرئيس الاميركي بيل كلينتون. كما لم يطلب عرفات من المؤتمر أية خطوات - تصريحاً ولا تلميحاً - كقطع العلاقات مع إسرائيل أو إعادة تفعيل المقاطعة الاقتصادية العربية ضدها. أو حتى إعادة تقييم الشعوذة التفاوضية الجارية أمامنا لسبع سنوات متصلة منذ اتفاقات اوسلو وبلاويها السوداء. كل ما طرحه عرفات على مؤتمر القمة العربي الأخير هو رؤية تقرر أن "هذه الموجة من العدوان الغاشم الذي تعرض له شعبنا الفلسطيني، بدأت حينما دنست أقدام شارون أرض الحرم الشريف والأقصى المبارك". تلك رؤية غير دقيقة ولا موضوعية. فزيارة شارون المسلحة إلى ساحة المسجد الأقصى في 28 أيلول سبتمبر الماضي كانت المناسبة التي اشتعلت عندها الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة. لكنها لم تكن السبب فيها. هذه الانتفاضة الأخيرة كانت أساساً ضد الاحتلال الإسرائيلي بكامله. لكنها في جانب آخر منها كانت أيضاً ضد مجمل الإدارة - أو عدم الإدارة - التفاوضية التي يباشرها عرفات نفسه وجماعة المستفيدين من اتفاقات أوسلو وتوابعها. هناك سبع سنوات من الأوهام قيل فيها أمام الكاميرات إن الشعب الفلسطيني أصبحت له سلطته "الوطنية"... بسلام وطني وحرس شرف وبطانة تسمي نفسها "وزراء" السلطة ومجلس تشريعي يقال إنه يراقب أداء السلطة وطوابع بريد وجوازات سفر ومطار وأرض "محررة" استردها صلاح الدين الجديد من أيدي الاحتلال "شاء من شاء وأبى من أبى". لكن الشعب تحت الاحتلال كان يعيش الحقائق مجردة أمام عينيه في واقع حياته اليومية. يعيش الاستيطان الإسرائيلي وهو يتوسع بنسبة خمسين في المئة. ويعيش شرطة الحكم الذاتي وهو تصبح واجهة للتغطية على وجود الاحتلال الإسرائيلي، ويرى مدناً فلسطينية معزولة عن بعضها البعض، ويرى كازينو قمار وفيللات فاخرة لجماعات أسماها "التوانسة" مقابل الفقر المدقع وتقارير "الاتحاد الأوروبي" بضياع أمواله التي ساهم بها لكنه لا يعرف لمن ذهبت. في لحظة الجد رأى الشعب الفلسطيني - تحت الاحتلال - أيضاً إغلاق مطار غزة فور مكالمة هاتفية من ضابط صغير في الأمن الإسرائيلي مع حرص إسرائيل في اللحظة نفسها على أن تُذَكّر العالم كله بأنها - كرماً وسخاءً منها - سوف تستثني طائرة عرفات فقط من الحظر. وحتى الشريحة المحدودة جداً من الأرض التي قيل لسنوات إنها "تحررت" عادت إليها الدبابات الإسرائيلية في غمضة عين. هذا الشعب تحت الاحتلال خرج ينتفض، ليس بفعل سلطة الحكم الذاتي ولكن بالرغم من وجودها، والادعاء فيما بعد بأن ميليشيا حركة "فتح" هي التي تقود الانتفاضة هو إدعاء هابط ورخيص ينذر بأن يتكرر مع هذه الانتفاضة مصير الانتفاضة الأولى في كانون الأول ديسمبر 1987 التي فوجئ بها عرفات في تونس ولكنه تاجر بها عربياً مقابل أموال اشترط دفعها نقداً وانتهت إلى المجهول. وحينما تفاعل أخيراً الفلسطينيون داخل إسرائيل من حاملي الجنسية الإسرائيلية مع انتفاضة 28 أيلول سبتمبر، هل كان هذا أيضاً بتعليمات من ميليشيا "فتح" وعرفات وسلطة حكمه الذاتي في أزقة بيت لحم وخارج مخيمات قطاع غزة؟ هناك موقف جاد كان يحتاج التعامل معه إلى عقول جادة. هناك سجن كبير اسمه اتفاقات أوسلو جرى إدخال القضية الفلسطينية إليه ومن يومها أصبحت المساومات مع الاحتلال الإسرائيلي تدور حول شارع هنا وحارة هناك. هناك تآكل خطر في الدعم الدولي للقضية الفلسطينية نلاحظه في الساحة الدولية. من الهند والصين إلى دول الاتحاد الأوروبي. هناك التزامات علنية وسرية حصلت عليها إسرائيل مبكراً من خلال اتفاقات أوسلو وتوابعها بوقف "العنف" بما يعني عملياً التنازل مسبقاً عن الحق المشروع للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. هناك أيضاًَ مشروع صفقة جرى طرحها في كامب ديفيد في شهر تموز يوليو الماضي وأعلن المفاوضون الفلسطينيون أنفسهم أنها اكتملت بنسبة ثمانين في المئة ولم يبق موضع خلاف سوى عشرين في المئة. كان المدخل الجاد - الناقص - في مؤتمر القمة العربي الأخيرة في القاهرة هو أولاً - أولاً - التعرف بدقة على تفاصيل تلك الصفقة. ربما يكون الرد الجاهز هنا هو أن المفاوض الفلسطيني مسؤول أمام شعبه. ممكن. لكن.. حينما يجيء هذا المفاوض إلى قمة عربية طالباً الدعم والمساندة فمن حق القادة المجتمعين أن يعرفوا مسبقاً - وبالضبط - ما هو المطلوب دعمه ومساندته. لقد دفع العرب جميعاً - والشعب الفلسطيني في المقدمة - ثمناً فادحاً نتيجة أسلوب "الشيكات على بياض" التي تسامح بها العرب في الماضي. الآن وقت للحساب والمراجعة والرقابة والجدية. ولو لمجرد أن التفريط مثلاً في حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة والتعويض يعني تلقائياً ثمناً فادحاً تتحمله دول عربية. بل وقد يعني الكارثة في حالة بلد صغير كلبنان مثلاً. لقد كانت الأطراف المعنية خارج مؤتمر القمة العربي الأخير هي الأكثر وضوحاً وتحديداً في طلباتها. إسرائيل مثلاً كانت تريد ما اسمته "سيادة صوت العقل والحكمة" داخل المؤتمر. وهو ما شكرت عليه القمة بعد انتهائها. ثم عدلت من لهجتها بعد ذلك. الولاياتالمتحدة أيضاً كانت محددة في طلباتها من المؤتمر: ألا يقوم بإدانة التزامات عرفات الأمنية في مؤتمر شرم الشيخ، وألا يصدر المؤتمر أية قرارات تنفيذية بمقاطعة إسرائيل أو قطع علاقات معها، وألا يقوم المؤتمر بوضع أية قيود سياسية على حركة ياسر عرفات التفاوضية فيما هو قادم من تطورات. النقطة الأخيرة هي الأخطر وهي أيضاً النجاح الاميركي الأكبر. في هذا الخصوص لا تصح المكابرة من بعضنا بأن أميركا لا تضغط علينا. هذه مكابرة خطرة تتحدث عن مجتمع دولي آخر غير هذا الذي نعيشه. أميركا تضغط حتى على حلفائها. تضغط على فرنسا وألمانيا واليابان مثلاً. هم أيضاً يضغطون عليها فينجحون أحياناً ويفشلون أحياناً. فالسياسة الرشيدة لأي دولة - كبرت أو صغرت - تتشكل من ضغوط ومكافآت. بغير ذلك تصبح السياسة عرجاء وفاقدة للمصادقية والفاعلية. الرأي العام يضغط أيضاً. ولا يقلل من شأن أي حاكم بيننا أن يقول علناً لمن يعنيهم الأمر أنه يواجه ضغوطاً من الرأي العام تحدد حركته وتلزمه بخطوط حمراء لا يستطيع تجاوزها. إسرائيل تمارس هذه اللعبة وتسايرها فيها الولاياتالمتحدة. لماذا الولاياتالمتحدة تفترض أن قادتنا - وقادتنا فقط من دون العالمين - بلا رأي عام؟ والخضوع للرأي العام لا يعني مزايدات تهريجية كدعوة صدام حسين مثلاً لفتح باب التطوع دفاعاً عن فلسطين. فلم تكن مشكلة فلسطين في أي وقت نقصاً في الرجال. لا يعني أيضاً الانجرار إلى مزاد لدفع الفلوس بلا رقيب ولا حسيب. فأحد الكوارث الكبرى للقضية الفلسطينية بدأت يوم انهالت الفلوس بلا رقيب ولا حسيب.. والذين خرجوا منتفضين أخيراً هم كسابقيهم في سنة 1987 - النسيج الوطني الفلسطيني بمجموع خيوطه.. لا شخص ولا حزب ولا طائفة. والدعم العربي المفهوم من القمة العربية يكون دعماً لقضية.. لا لشخص ولا لبطانة ولا لسماسرة. والآن، فيما بعد القمة العربية الأخيرة في القاهرة، لا بد من خلاصة محددة: فإذا أراد القادة العرب من الرأي العام أن يتفهم قيودهم يصبح من واجب القادة العرب أن يتفهموا غضبه.. وأن يصارحوا الولاياتالمتحدة بأنهم يقودون شعوباً.. لا قطيعاً من الأغنام. فقط حينما تأخذهم الولاياتالمتحدة بمصداقية سيتغير الموقف الأميركي. لكن ليس قبل ذلك لحظة واحدة. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية.