اذا كانت السيدة مارغريت ثاتشر قامت برحلات الى عدد كبير من البلدان طوال الفترة التي كانت خلالها رئيسة للحكومة البريطانية، من المؤكد أن الرحلة التي ظلت، وستظل الى النهاية، في بالها تشعل ذكرياتها هي تلك التي قامت بها الى بولندا. وذلك ببساطة لأنها كانت الرحلة الأكثر نجاحاً بالنسبة اليها. وتعبير "الأكثر نجاحاً" كان يعني بالنسبة الى سيدة بريطانيا الفولاذية أنها لقيت هناك آذاناً صاغية ما مكنها من تمضية وقتها كله وهي تعطي دروساً في السياسة والاقتصاد، وتحرض الشعب البولندي على نظامه، وتزجي الوعود تلو الوعود، من دون أن يحاسبها أحد على ذلك. هناك في بولندا، وحيث كانت في رفقة طيبة مع زعيم اتحادات "تضامن" العمالية ليخ فاونسا الحامل على سترته صورة للسيد المسيح يجتذب بها عمالاً سئموا الاشتراكية والشيوعية والإلحاد والحكم العسكري المناصر للسوفيات، شعرت مارغريت ثاتشر انها على سجيتها وبين قوم يحبونها أكثر مما يحبها أبناء جلدتها من الانكليز. وهكذا حيث كانت ثاتشر، مثلاً، تصرخ ملء فمها في أحواض غدانسك "ليخرج الشيوعيون من هنا" ويرد عليها صدى الآلاف يرددون الهتاف نفسه، بدت وكأنها حققت أمنية عمرها. زيارة السيدة ثاتشر لبولندا كانت خلال الأيام الأولى من شهر تشرين الثاني نوفمبر 1988، أما زيارتها للعمال في غدانسك فكانت في الرابع من الشهر نفسه، وهي ستقول لاحقاً ان تلك الزيارة للعمال شكلت نقطة الذروة ولحظة السعادة القصوى في جولتها البولندية، تلك الجولة التي لم يكن في وسع أحد أن يتصور امكان قيامها لولا تطورات الوضع البولندي التي كانت جعلت من اتحادات "تضامن" جزءاً اساسياً من المشهد السياسي البولندي. وهو ما أدركته ثاتشر حين صرخت أمام العمال، حين تحدث أحدهم عن "تضامن" واصفاً إياها ب"النقابات العمالية"، قائلة: "انكم، يا أهل التضامن، أكثر من مجرد نقابة أو اتحاد نقابات... انكم معارضة قائمة في ذاتها". والحال أن ثاتشر لم تكن مخطئة في تشخيصها في ذلك اليوم حين راحت تتصرف مع "تضامن" بوصفها مركز المعارضة ومكان التعبير عنها. صحيح أن ثاتشر لم تكن لتصدق في ذلك الحين أن تطورات السياسة سوف توصل "تضامن" وزعيمها الى السلطة قبل أن تسقط بهما الى أسفل السافلين جاعلة فاونسا يحصل على أقل من 1 في المئة من أصوات الناخبين في الانتخابات الأخيرة. غير أن الصورة لم تكن على ذلك النحو في العام 1988. وهذا ما أتاح لثاتشر أن يجعل من خطاباتها في بولندا خطابات حرية، ولا سيما حين تحدثت الى الجنرال ياروزلسكي، الزعيم البولندي الشيوعي، في مأدبة رسمية أقامها لها في مقر الحكم قائلة انه من الضروري له أن يقيم حواراً حقيقياً مع ممثلي شتى فئات المجتمع بمن فيهم "تضامن". وبعد ذلك حين حدثها مضيفوها الرسميون عن استثمارات ومعونات اقتصادية غربية قالت ان هذا سوف يتحقق حين يحقق حوار السلطة البولندية مع الشعب نجاحاً. وإذ اعتقدت ثاتشر اثر قولها هذه العبارة ان الزعامة السياسية الرسمية البولندية لم تفهم مرماها، أضافت مفسرة: "إن النجاح يرتبط بالانفتاح والنقاش الحر، ونحن في الغرب ما كان في وسعنا أن ننجز تقدمنا التكنولوجي العظيم ونحققه لولا اننا حققنا الانفتاح والنقاش الحر". يومها ردّ ياروزلسكي عليها قائلاً ان "شروط الوصول الى مصالحة وطنية باتت على وشك التحقق، حيث اننا نعيش بداية مرحلة جديدة من الاشتراكية الديموقراطية والانسانية". وبدا واضحاً أن هذا التأكيد لم يرق كثيراً للسيدة ثاتشر التي كانت تريد، وبكل بساطة، ألا يلفظ أحد أمامها كلمة "اشتراكية" مصحوبة بصفات مثل ديموقراطية وانسانية. هناك، في بولندا، كانت المسؤولة البريطانية الكبيرة، تعيش معركة تشعر انها تخوضها وانها سوف تكون واحدة من أكبر معاركها ظفراً. ومن هنا نراها تصر خلال الزيارة على زيارة ضريح الأب جرزي بوبيولوسكو، رجل الدين المرتبط بالتضامن، والذي كانت الشرطة السرية البولندية اغتالته في العام 1984. وهذا كله جعل السيدة ثاتشر تسر كثيراً حين تتجول في شوارع المدن البولندية وتسمع الناس يصيحون، من ناحية "تحيا ثاتشر" ومن ناحية ثانية "تسقط الشيوعية". الصورة: ثاتشر وفاونسا في بولندا