سواء اخطأ العراق أو أصاب في وصفه الحظر الجوي بأنه كذبة أميركية، فالواقع الذي لم تدحضه واشنطن أنها لم تقاوم تحدي الرئيس صدام حسين الحظر، وارساله جواً نائب رئيس الوزراء طارق عزيز الى دمشق فبكين، ونائبه طه ياسين رمضان الى نيودلهي على متن الخطوط العراقية. وإذا كانت بغداد "اكتشفت" فجأة أن ذلك النوع من العقوبات الذي عزلها عن الفضاء أكثر من عشر سنين هو مجرد "كذب"، لن يكون غريباً اكتشاف الكذب الأميركي إذا قيل ان البيت الأبيض منهمك بقضية أكبر بكثير من تمرد صدام على قفص الحصار... بل الغريب لدى بعضهم، من غير أصحاب النيات "الحسنة"، تلمس تقاطع الخطوط العراقية بالخيوط الأميركية. يثير السخرية بالطبع - في ظل معمعة الصراع على دخول البيت الأبيض و"ملحمة" الانتخابات الرئاسية - الكلام الأميركي على الصبر إزاء تصرفات بغداد، بدءاً برفض استقبال مفتشي الأسلحة، مروراً باستقبال طائرات وارسال أخرى الى الخارج، وانتهاء بالتحرك العراقي لالغاء رقابة الأممالمتحدة على العائدات النفطية. صحيح ان المسعى الجديد ما زال في بداياته، وسيواجه معارضة شديدة من واشنطن ولندن، لكن تجاهل الولاياتالمتحدة الاصرار العراقي على رفض تطبيق القرار 1284 لا يُفهم إلا في سياق التغاضي عن خطة مبرمجة لتفكيك الحظر. ولا يمكن انكار نجاح بغداد في المراحل الأولى من هذه الخطة، الى حد يكسب ملامح السياسة الأميركية "الجديدة" واقعية، إذا أضيف اليها ذلك التغاضي المكشوف. لكن هذه الواقعية ليست نتاجاً للتعاطف مع المدنيين العراقيين، وجيل الحظر الذي لم يعش رفاهية برنامج "النفط للغذاء"... بل أقرب حتماً الى مصالح الولاياتالمتحدة. وهذه يمكنها أن تجعل الحقيقة كذباً، والواقع خرافة. وإذا صح ما تتناقله أوساط عن سياسة مختلفة مع بغداد سيتبناها الرئيس الأميركي الجديد، تمهد لها ادارة الرئيس بيل كلينتون، لبطُل العجب هذه المرة في تصديق ما يردده العراق عن انتصاره على أسوار الحصار... هكذا من دون "شهادة" بخلوه من الأسلحة المحظورة، طالما تمسكت بها واشنطن على مدى عشر سنين، ومن دون معالجة ملف الأسرى الكويتيين وغيرهم. لن يبخل صدام في دفع رواتب المفتشين من "النفط للغذاء"، ما داموا يواصلون في الخارج التدرب على مهمة مؤجلة، والمهم ان سياسة الاحتواء الأميركية التي فشلت مع ايران، تسقط في العراق، من دون أن يبرر البيت الأبيض ما الذي تغيّر في بغداد كي تتخلى واشنطن عن تشدد دفع المدنيون وحدهم ثمنه، بذريعة إبقاء صدام في القفص، بعدما تعذرت اطاحته. وما يحصل الآن يؤكد كم أصاب الذين وصفوا تدريب الولاياتالمتحدة المعارضين العراقيين وتزويدهم اجهزة كومبيوتر، بمسرحية أقرب ما تكون الى الهزل. وهؤلاء من المعارضين أنفسهم، الذين لم يروا في ربط مشروع التغيير بواشنطن سوى محاولة لإبعاده... عن العراق. ليست تلك دعوة الى ابقاء الحظر، أو استهجان محاولة بغداد التخلص منه، انما بعد كل الثمن الذي دُفِع، ماذا تغير؟ لن يتهاوى الحظر غداً، وإذا كانت هذه بداية النهاية، فالعراق مدعو مجدداً الى مصالحة مع جيرانه، ومصالحة مع مواطنيه، تكون بداية الطريق للتعايش مع العالم، بصرف النظر عما ستجنيه اميركا، في العراق وأسواقه، بعد مرحلة الحصار.