قبل الحديث عن أحداث بدر الكبرى واستخلاص دروسها ونتائجها يشار الى السبب الذي دفع الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج في ليال مضت من شهر رمضان مع أصحابه. فلقد سمع النبي بعير تجارية لقريش قادمة من الشام بإشراف أبي سفيان بن حرب، فندب المسلمون اليها ليأخذوها لقاء ما تركوا من أموالهم في مكة، فخف بعضهم لذلك وتثاقل آخرون اذ لم يكونوا يتصورون قتالاً في ذلك. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليال مضت من شهر رمضان مع أصحابه وكانوا، في ما رواه ابن اسحاق ثلاثماية وأربعة عشر رجلاً وكانت إبلهم سبعين يتعاقب على الواحدة منها اثنان أو ثلاثة من أصحابه وهم لا يعلمون من أمر قريش وخروجهم شيئاً. أما ابو سفيان فقد أتيح له ان يحرز عِيَرهُ، إذ سلك طريق الساحل الى مكة وجعل ماء بدر عن يساره، وأخذ يسرع حتى أنجى عيره وتجارته من الخطر. ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أتاه خبر مسير قريش الى المسلمين فاستشار من معه من أصحابه فتكلم المهاجرون كلاماً حسناً وكان منهم المقداد بن عمرو فقد قال: يا رسول الله، امض لما امرك الله فنحن معك. ولكن النبي ظل ينظر الى القوم ويقول لهم: "أشيروا علي أيها الناس". فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، فقال سعد: "لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك". فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول سعد "ثم قال: سيروا وأبشروا فان الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر الى مصارع القوم". ثم إن النبي اخذ يتحسس أخبار قريش وعددهم عن طريق العيون التي بثها حتى علم المسلمون أنهم ما بين التسعمائة والألف وأن فيهم عامة زعماء المشركين. وقد كان أرسل ابو سفيان إليهم ان يرجعوا الى مكة اذ انه قد أحرز العير. ولكن أبا جهل أصرَّ على المضي وكان مما قال: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم عليهم ثلاثاً فننحر الجزر ونطعم الطعام، ونسقي الخمرة، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وبجمعنا فلا يزالون يهابوننا". ثم إنهم مضوا حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ونزل رسول الله عليه الصلاة والسلام عند أدنى ماء من مياه بدر فقال الحباب بن المنذر: "يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة" قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة، فقال: فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من الابار، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فنهض رسول الله وتحول الى المكان والرأي اللذين أشار بهما الحباب رضي الله عنه، واقترح سعد بن معاذ ان يبني عريشاً للنبي يكون بمأمن فيه رجاء أن يعود سالماً الى من تخلف من المسلمين في المدينة وأن لا يُنْكَبوا بفقده. فوافق عليه الصلاة والسلام على ذلك ثم أخذ يطمئن أصحابه بتأييد الله ونصره حتى أنه كان يقول: هذا مصرع فلان. ومصرع فلان أي من المشركين وهو يضع يده على الأرض ههنا وههنا. فما يزحزح أحدهم في مقتله عن موضع يده، وراح رسول الله يجأر الى الله تعالى بالدعاء مساء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان وهو يقول: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة" وظل يناشد الله متضرعاً وخاشعاً" وهو يبسط كفيه الى السماء حتى أشفق عليه ابو بكر رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال له: "يا رسول الله، ابشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك" وأقبل المسلمون أيضاً يستنصرون الله ويستغيثونه ويخلصون له في الضراعة. وفي صبيحة يوم الجمعة لسنتين خلتا من الهجرة، بدأ القتال بين المشركين والمسلمين وأخذ النبي حفنة من الحصباء فأستقبل بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه ثم نفحهم بها فلم يبق فيهم رجل الا امتلأت عيناه منها. وأيد الله المسلمين بالملائكة يقاتلون الى جانبهم وانحسر القتال عن نصر كبير للمسلمين وقتل في تلك الموقعة سبعون من صناديد المشركين وأسر سبعون واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً. وثمة أسباب كثيرة تمخضت عن انتصار القلة على الكثرة في معركة بدر الحاسمة لعل أهمها القيادة الموحدة. فلقد كان الرسول هو القائد العام للمسلمين في معركة بدر وكان المسلمون يعملون كَيَدٍ واحدة تحت قيادته يوجههم في الوقت المناسب للقيام بعمل حاسم. وكان ضبط المسلمين في تنفيذ اوامر قائدهم مثالاً رائعاً للضبط الحقيقي المتين. وثمة سبب آخر لهذا الانتصار نعني به التعبئة الجديدة، فلقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم في مسير الاقتراب من المدينة الى بدر تشكيلة لا تختلف بتاتاً عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء، كان لهم مقدمة وقسم اكبر ومؤخرة كما استفاد من دوريات الاستطلاع للحصول على المعلومات. وتلك هي الاساليب الصحيحة لتشكيلات مسير الاقتراب في حرب الصحراء حتى في العصر الحاضر. اما في المعركة فقاتل المسلمون بأسلوب الصفوف بينما قاتل المشركون بأسلوب الكر والفر. كما لعبت العقيدة الراسخة دوراً مهماً في انتصار المسلمين فقد كان لهم أهداف معينة يعرفونها ويؤمنون بها لعل أبرزها حرية الدعوة حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولا ننسى في هذا المجال المعنويات العالية التي تمتع بها المسلمون وعمل الرسول على تقويتها قبل القتال واثناءه حتى لا يكترثوا بتفوق قريش عليهم عدداً. تمخضت معركة بدر عن نتائج مهمة فقد هددت طرق تجارة المكيين وهي عصب حياتهم وأضعفت هيبة مكة ونفوذها على العرب، ونمت قوة الاسلام وعززت دولته الجديدة في المدينة وانفسح المجال لنشر دعوته وازداد التضامن بين المهاجرين والانصار قوة وتماسكاً. وكان تشريع خمس الغنائم في أعقاب بدر ذا خطورة عظيمة لأنه أول تشريع قرآني مالي رسمي غير الزكاة توطد به بيت المال في الاسلام وتيسر تحقيق ما دعا اليه القرآن من مساعدة المحتاجين والانفاق في سبيل مصالح المسلمين العامة بأسلوب رسمي غير قائم على التبرع. * باحث ومؤرخ.