حفل شهر رمضان المبارك بالعديد من الأحداث الكبرى التي تعتبر محطات تاريخية في عمر الدعوة الإسلامية التي قادها الرسول (صلى الله عليه وسلم) وشكّلت منعطفاً مهماً لتحديد مسار المواجهة التي قادها المسلمون ضد مشركي قريش وفتحت ف ما بعد طريق الانتشار الإسلامي داخل الجزيرة العربية بعد جهاد كبير قاده المسلمون وقدموا خلاله العديد من الشهداء لرفع راية الحق وتثبيت دعائم الدعوة الإسلامية. وتأتي غزوة بدر الكبرى في مقدمة الغزوات التي شكّلت امتحاناً قوياً لصلابة ذلك النفر من المسلمين الأوائل، وشدة تمسّكهم بعقيدتهم وصبرهم وجهادهم لمقاومة صلافة قريش، وتحديها لانطلاقة الإسلام ومحاولتها القضاء عليه قبل أن يرسّخ وجوده في أرض الجزيرة العربية. وقبل أن نتحدث عن العبر والعظات التي رافقت هذه الغزوة الكبرى، لا بدّ أن نشير إلى أسبابها وهي أنّ النبي (ص) سمع عيراً تجارية لقريش قادمة من الشام بإشراف أبي سفيان بن حرب، فندب المسلمين إليها ليأخذوها لقاء ما تركوا من أموالهم في مكة. فخفّ بعضهم لذلك وتثاقل آخرون إذ لم يكونوا يتصوّرون قتالاً في ذلك. وتحسّس أبو سفيان الأمر وهو في طريقه إلى مكة، فبلغه عزم المسلمين على خروجهم لأخذ العير. فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ليخبر قريشاً بالخبر ويستنفرهم للخروج محافظة على أموالهم. وخرج رسول الله (ص) في ليال مضت من شهر رمضان مع أصحابه وكانوا ثلاثمئة وأربعة عشر رجلاً، وكانت إبلهم سبعين، يتعاقب على الواحدة منها اثنان أو ثلاثة من الصحابة، وهم لا يعلمون من أمر أهل قريش وخروجهم شيئاً. أما أبو سفيان فقد أتيح له أن يحرز عيره، إذ سلك طريق الساحل إلى مكة وجعل ماء بدر عن يساره، وأخذ يسرع حتى أنجى عيره وتجارته من الخطر. ثم إنّ النبي (ص) أتاه خبر مسير قريش إلى المسلمين فاستشار من معه من أصحابه. فتكلّم المهاجرون رضي الله عنهم كلاماً حسناً، وكان منهم المقداد بن عمرو رضي الله عنه، فقد قال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك. ولكن النبي (ص) ظل ينظر إلى القوم ويقول لهم: «أشيروا علي أيها الناس». فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، فقال سعد: لقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فسرّ رسول الله (ص) ثم قال: سيروا وابشروا فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين... والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم. ثم إنّ النبي (ص) أخذ يتحسّس أخبار قريش وعددهم عن طريق العيون التي بثّها حتى علم المسلمون أنهم ما بين التسعمئة والألف، وأنّ فيهم عامة زعماء المشركين. وكان أبو سفيان قد أرسل إليهم أن يرجعوا إلى مكة، لأنه قد أحرز العير، ولكن أبا جهل أصر على المضي، وكان مما قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم عليه ثلاثاً، فتنحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا. ومضوا بالفعل حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، ونزل رسول الله (ص) عند أدنى ماء من مياه بدر. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّم ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة. فقال: إنه ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فنهض رسول الله (ص) وتحول إلى المكان والرأي اللذين أشار بهما الحباب رضي الله عنه. واقترح سعد بن معاذ رضي الله عنه أن يبنى عريشاً للنبي (ص) يكون بمأمن فيه، رجاء أن يعود سالماً إلى من تخلف من المسلمين في المدينة وأن لا ينكبوا بفقده، فوافق النبي (ص) على ذلك. وأخذ النبي (ص) يطمئن أصحابه رضي الله عنهم بتأييد الله ونصره. حتى أنه كان يقول: هنا مصرع فلان، ومصرع فلان (أي من المشركين) وهو يضع بيده على الأرض ههنا ههنا. فما تزحزح أحدهم في مقتله عن موضع يده. وراح رسول الله (ص) يجأر إلى الله تعالى بالدعاء مساء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان ويقول: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني. وظل يناشد الله متضرعاً وخاشعاً وهو يبسط كفيه إلى السماء حتى أشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال له: يا رسول الله أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك. وأقبل المسلمون أيضاً يستنصرون الله ويستغيثون ويخلصون له في الضراعة. وفي صبيحة يوم الجمعة لسنتين خلتا من الهجرة بدأ القتال بين المشركين والمسلمين وأخذ النبي (ص) حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها فلم يبق فيهم رجل إلا امتلأت عيناه منا. وأيّد الله تعالى المسلمين بالملائكة الكرام يقاتلون إلى جانبهم وانحسر القتال عن نصر كبير للمسلمين.{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال 9-10) وقتل في تلك الموقعة سبعون من صناديد المشركين، وأسر سبعون واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً. وألقيت جثث المشركين الذين صرعوا في هذه الغزوة – وفيهم عامة صناديدهم – في قليب بدر. وقام رسول الله (ص) على ضفة البئر فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله (ص): والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. واستشار النبي (ص) أصحابه الكرام في أمر الأسرى فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم فدية من المال تكون قوة للمسلمين ويتركهم عسى الله أن يهديهم. وأشار عليه عمر رضي الله عنه بقتلهم لأنهم أئمة الكفر وصناديده. ولكن النبي (ص) مال إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه لما فيه من الرحمة بهم وافتدائهم بالمال، وحكم فيهم بذلك. غير أنّ آيات من القرآن الكريم نزلت عتاباً لرسول الله (ص) في ذلك، وتأييداً للرأي الذي رآه عمر رضي الله عنه في قتلهم، وهي قوله تعالى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.(الأنفال 67 -69) وتنطوي غزوة بدر الكبرى على دروس وعظات جليلة، كما تتضمن معجزات باهرة تتعلق بتأييد الله تعالى نصره للمؤمنين المتمسكين بمبادئ إيمانهم المخلصين في القيام بمسؤوليات دينهم. فالدافع الأساسي لخروج المسلمين مع رسول الله (ص) لم يكن القتال والحرب، وإنما قصد الاستيلاء على عير قريش القادمة من الشام تحت إشراف أبي سفيان. غير أنّ الله تعالى أراد لعباده غنيمة أكبر ونصراً أعظم وعملاً أشرف وأكثر انسجاماً مع الغاية التي ينبغي أن يستهدفها المسلم في حياته كلها. فأبعد عنهم العير التي كانوا يطلبونها وأبدلهم بها نفيراً لهم لم يكونوا يتوقعونه. وفي هذا دليل على أمرين: الأول: أنّ عامة ممتلكات الحربيين تعد بالنسبة إلى المسلمين أموالاً غير محترمة. فلهم أن يستولوا عليها ويأخذوا ما امتدت إليه أيديهم منه. وما وقع تحت يدهم من ذلك اعتبر ملكاً لهم. وهو حكم متفق عليه عند عامة الفقهاء. وكان للمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم في مكة عذر آخر في القصد إلى أخذ عير قريش والاستيلاء عليها، وهو محاولة التعويض – أو شيء من التعويض – عن ممتلكاتهم التي بقيت في مكة واستولى عليها المشركون من ورائهم. الثاني: على الرغم من مشروعية هذا القصد، فإن الله تعالى أراد لعباده المؤمنين قصداً أرفع من ذلك وأليق بوظيفتهم التي خلقوا من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى دين الله تعالى والجهاد في سبيل ذلك، والتضحية بالروح والمال في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى. ومن هنا كان النصر العظيم حليف أبي سفيان في النجاة بتجارته، بمقدار ما كانت الهزيمة العظيمة حليف قريش في ميدان الجهاد بينهم وبين المسلمين. وهذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين تتجلى بأبرز صورها في قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} (الأنفال 7) وثمة شيء آخر تجب الإشارة إليه وهو التزام رسول الله (ص) بمبدأ التشاور مع أصحابه الكرام، ومن أجل هذا أجمع المسلمون على أنّ الشورى في كل ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنة، أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله. وثمة دلالة أخرى وهي خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح بين المسلمين وغيرهم لما يسمى بالسياسة الشرعية أو ما يسميه بعضهم ب «حكم الإمامة» وبيان ذلك أنّ مشروعيته فرض الجهاد من حيث الأصل حكم تبليغي لا يخضع لأي نسخ أو تبديل. كما أنّ الأصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لا يجوز إبطاله أو اجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية، غير أنّ جزئيات الصور التطبيقية المختلفة لذلك تخضع لظروف الزمان والمكان وحال المسلمين وحال أعدائهم، والميزان المحكم في ذلك إنما هو بصيرة الإمام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر في أحكام الدين مع إخلاص في الدين وتجرد في القصد، إلى جانب اعتماد دائم على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وآرائهم المختلفة.