الكتاب العربي الى أين؟ ما هو موقعه على خريطة العالم العربي؟ وما حاضره؟ ما مستقبله؟ أسئلة تحفر في رأسي في الليل والنهار. أما حاضر الكتاب العربي فلا يدعو الى البهجة أبداً لأن الكتاب يعيش في حال حصار دائم، ويعامل كما يعامل السجناء... والمعتقلون السياسيون. أما مستقبله، فلا أحد يستطيع أن يتنبأ به إذا بقيت الحال كما هي، لأن جميع الدلائل تشير الى ان شمس الكتاب العربي آخذة في الأفول، وانه في سبيله الى الانقراض، كما تنقرض أية شجرة لا تستطيع الحصول على غذائها الأرضي، والهواء الضروري لتنفسها. الكتاب والإنسان... كائنان يتشابهان تشابهاً عظيماً في بنيتهما، وتشكيلهما ووظائفهما البيولوجية. بل انهما يتشابهان حتى في دورتهما الدموية، وجهازهما العصبي وجهازهما التنفسي. فكما للإنسان رئتان وقصبة هوائية... فإن للكتاب أيضاً رئتين وقصبة هوائية. وكما يمارس الإنسان رياضة المشي، وتسلق الجبال، والسباحة، والتزلج على الماء، والسفر... فإن للكتاب أيضاً هواياته في الإبحار في المجهول، والسفر حول العالم. ومنع الكتاب من السفر كمنع الإنسان من السفر، وهو عدوان صارخ على أبسط مبادئ الحرية، ووقوف في وجه غريزة طبيعية من غرائز الأحياء. ان منع كتاب من ممارسة حقه الطبيعي في الانتقال، يشابه الى حد بعيد منع الرياح والأمواج من الحركة، والخيول من الركض، والعصافير من الطيران، والأسماك من الهجرة، والكواكب من السير في مداراتها. الكتاب العربي مصاب بشلل الأطفال، ومتجمد في مكانه كسيارة سحبت منها بطاريتها. فهو يولد في مكانه ويموت في مكانه. قبل أربعين أو خمسين عاماً، كان الكتاب قديساً يعلّم الحكمة وينشر المعرفة، ويُخرج الناس من الظلمات الى النور. وكانت الحدود العربية تستقبله بالورد والموسيقى، وتفرش تحت أقدامه السجّاد الأحمر. أما في هذا العصر الذي يحترف الجهل والجهالة، فقد أصبح الكتاب العربي قاطع طريق، تعلق صوره على جدران المدينة ويطلب رجال الأمن رأسه. وإذا مرّ بطريق المصادفة على الحدود العربية، فإن الكلاب البوليسية هي التي تتولى تفتيش جيوبه وحقائبه، وشمشمة ملابسه، واحتجازه في الكرنتينا حتى لا ينقل جراثيمه الفكرية الى الناس. وبعد ان كان الكتاب العربي في الثلاثينات والأربعينات، يتمتع بكل الامتيازات والحصانات التي يتمتع بها الملوك، والديبلوماسيون، والسفراء والقناصل، فإنه في القرن الجديد سقط كما في السبعينات والثمانينات والتسعينات تحت الأرجل، فهو اليوم مواطن غير شرعي، سُحِبَ منه جواز سفره وأسقطت عنه حقوقه المدنية، ولم يعد يجد كفيلاً يكفله أو محامياً يدافع عنه. ان مأزق الكتاب العربي هو جزء من المأزق العام. فهو المؤشر السياسي، وهو المؤشر القومي، وهو المؤشر الوحدوي، وهو المؤشر الثوري والنضالي. وحين تكون الديموقراطية غائبة، والقمع سيد الأحكام، فلا بد أن يكون الكتاب العربي صورة طبق الأصل لمحيطه وبيئته وأن تظهر على وجهه كدمات العصر. وكما الإنسان العربي يمر بأزمة تنفس واختناق فإن الكتاب العربي يشكو أيضاً من العوارض ذاتها. لذلك يستحيل على الكتاب أن يعيش في ظروف غير انسانية، ويستحيل عليه أن يستمر في البقاء إذا لم يحصل على الحدّ الأدنى من الهواء والماء وبروتينات الحرية. ليس أمام الكتاب سوى خيارين لا ثالث لهما: فإما أن ينخرط في صفوف المرتزقة والانكشاريين، ويحترف المجاملة والنفاق، والضرب بسيف السلطان، وعندئذ سيكون قطعة غيار في ماكينة النظام الثقافي، وإما أن يعزف سمفونيته الخاصة خارج الجوقة الرسمية، وعندئذ سيوضع في قائمة المنبوذين والملاحقين، والخارجين على القانون. بين الكتاب العربي وبين السلطة الثقافية ما صنع الحداد. انها العلاقة بين المطرقة وبين السندان. أو بين القط والفأر... أو بين المبضع واللحم... ولا أجد تفسيراً لهذه العلاقة السيئة سوى انها بين سلطتين: لكل منهما وسائلها، وأدواتها، وجيوشها، وأسلحتها... فحين تلجأ السلطة الثقافية الى وسائلها الزجرية المرادفة من منع، وقمع، ورقابة، ومصادرة، لا يملك الكتاب من وسائل الدفاع عن النفس سوى العمل تحت الأرض، والتسلل من ثقوب الأبواب وارتداء طاقية الإخفاء للوصول الى وجدان الناس. ان السلطة الثقافية على رغم تظاهرها بحب الكتاب فهي تكرهه، وعلى رغم حفلات التكريم والمعارض التي تقيمها على شرفه فهي تنتظره على باب الدخول لتوسعه ضرباً وتتركه مضرجاً بدمه... صحيح ان معارض الكتب، التي تقام هنا وهناك في العواصم العربية، توحي بأن الكتاب لا يزال بخير، وان الدول المضيفة لا تزال تستقبله بالترحاب، وتفتح له صدر البيت. هذه هي الصورة الظاهرية، أما الصورة الداخلية فمختلفة تماماً. فالكتب المعروضة في أجنحة الناشرين لا تتجاوز عشرة في المئة من مجموع الكتب التي تصدرها دور النشر العربية، أما التسعون بالمئة فهي معتقلة في مخازن الرقابة. وإذا استعرضنا نوعية الكتب التي رضي عنها الرقيب وأطلق سراحها، وجدنا انها الكتب التي تنتمي الى الماضي أكثر مما تنتمي الى الحاضر، وتكتفي بتقديم المعلومات من دون طرح الأسئلة، ككتب التراث، والمعاجم، والموسوعات، والخرائط، والفلك... وغير ذلك من الكتب التي يعاد طبعها منذ مئات السنين من دون أن يعترض عليها أحد. هذه الكتب وحدها هي الكتب التي لم يناقش أحد شرعيتها منذ القرن العاشر حتى اليوم... لأنها كتب قالت ما عندها ولم يعد لديها شيء آخر تقوله... فالمعلقات العشر تمر بسلام بين أصابع الرقيب لأنه لا يشعر بحساسية من شعر الفرزدق، أو النابغة الذبياني أو عنترة. أما دواوين الشعر الحديث فلا بد من دخولها الى غرفة الطوارئ وفحصها على أشعة الليزر... والغريب في أمر هذه المعارض انها خاضعة لمزاجية الرقيب، وإحساسه الجمالي، وموقفه الحضاري مما يقرأ... فرقيب يسلطن على ديوان شاعر فيجيزه، ورقيب تتحرك عقده السلفية أمام ديوان شاعر آخر فيحكم عليه بالموت شنقاً. ومما يدعو الى الدهشة أيضاً ان كتاباً سمح بتداوله في أعوام سابقة في معرض ما، حظر تداوله في المعرض ذاته هذا العام... ولا أدري إذا كان الرقيب هو الذي يتغير بين عام وعام أم ان أفكار المسؤولين عن الثقافة هي التي تتغير بين يوم ويوم... كل هذه المفارقات تجعل الكتاب قلقاً مذعوراً، وخاضعاً للأحكام العرفية ولنزوات بوليسية لا علاقة لها بالثقافة. فديموقراطية الثقافة التي نفتقدها، تجعل كل كتاب متهماً حتى تثبت براءته، في حين ان الديموقراطية الغربية تعتبر كل كتاب بريئاً حتى تثبت ادانته. ان الكتاب هو وجهة نظر، ومن تعدد وجهات النظر تكون الثقافة، ولا خير في ثقافة تكون ذات رأي واحد، أو اجتهاد واحد، أو بُعْدٍ واحد كما يقول هربرت ماركوز. ثم ان الكتاب هو موقف من الحرية بشكل عام. فإذا كانت الدولة لا تؤمن بمبدأ الحوار والمجادلة فخير لها أن لا تقيم معارض كتب، لأن موقفها من الكتاب سيكون موقفاً استعراضياً ومسرحياً... ان الدولة، أية دولة، لا يمكنها أن تكون صديقة الكتاب وعدوته في وقت واحد. والنظام الذي يخاف خشخشة الورق ولديه حساسية من رائحة الحبر هو نظام لا جذور له في الأرض... وأنا أعتقد ان النظام الثقافي الواثق من نفسه، هو الذي يحترم الكتاب ويتخذ منه صديقاً. ولا أعتقد ان كتاباً عربياً مهماً كان حاداً وعصبي المزاج، يفكر أن يزعزع دعائم المجتمع أو يتآمر على الأمن القومي، فالكتاب أداة تغيير وتعمير وليس أداة تخريب. ان الوطن يكبر كلما ازداد عدد كتبه وعدد كتّابه، وما أشقى الوطن الذي لا يجد ورقة يكتب عليها أو دواة حبر يسافر في موجها الأزرق. لندن 22/11/000