المدينة الواقعة في اقصى الطرف الشمالي من بلدها، ينام اهلها باكراً، او هم يؤون الى بيوتهم ما ان تغيب الشمس وتبدأ المصابيح الكهربائية الخافتة بإضاءة الغرف، ونشر الكآبة في ارجائها. اما المتجول في ارجائها، في ذاك الوقت، فلن يتمكن من تحويل انظاره عن الشرفات التي تصل إليها من المصابيح الداخلية قبسات اضاءة قليلة، تدفع الى التفكر في ما يحصل خلف الأبواب غير المحكمة الإقفال. العابرون القليلون معظمهم من الرجال، لكن ثمة سيدتين سمينتين تمشيان بسرعة داخل الحديقة العامة. انهما تتريضان، لكن صمتهما ووجومهما يزيدان من وحشة الحديقة ومن بطء جريان الزمن فيها. المدينة هرمة، هذا ما توحي به اشجار زرعتها قبل عقود قليلة بلديتها التي اختير اعضاؤها بين ناشطي الحزب الحاكم. الأشجار خضر، لكنها ليست نضرة، فقد غطت اوراقها طبقة من الغبار، واضفت الإضاءة الخافتة المنبعثة من مصابيح الشوارع عليها مزيداً من الهرم والهشاشة، فجعلت اوراقها واغصانها الصغيرة عرضة لانعكاس ضوء يشبه النار قبل خمودها بلحظات. الناس قليلون جداً في الحديقة العامة ذات المقاعد المخلعة، والرجلان الطويلان القادمان من الناحية الأخرى مبطئان جداً، لا يستطيع وجودهما ان يؤنس زائراً غريباً. انهما من رجال العشائر او من وجهائها على الأرجح، على ما تدل ملابسهما والحنّاء على شاربيهما. واحد منهما فقط هو الذي يتكلم، فيخرج صوته عميقاً ورتيباً يزيد من شعورك بقفر الحديقة. الطريق الواسعة التي تقطع المدينة وتوزع احياءها، ليست مقفرة، لكن عابريها رجال وشباب غُفل، لا يبدو انهم الفوا المرور. او ان كثرة المنشآت العامة الحكومية المنتشرة على جانبي الطريق حالت دون انتظام الناس ليلاً في حركة مرور عادي عليها، اذ كثيراً ما تتحول المناطق المحيطة بالإدارات الرسمية مساحات مقفرة ليلاً، ويزيد في قفرها وجود حراس ضجرين على ابوابها. الطريق الواسعة تؤدي الى احياء المدينة المختلفة. انها الطريق الرسمية التي اذا استقبلت المدينة ضيفاً، جعلته يمر عبرها، والتي منها عليك ان تنعطف حتى تصل الى الفندق الوحيد في المدينة. يصعب التقاط ملامح العابرين. فثمة عدم انسجام واتصال يعيقان اي محاولة للكشف عن الأذواق والاختيارات المتاحة. المطعم ذو الاسم الأجنبي المضاء بمصابيح خضر، لا يُبدي العاملون فيه ترحيباً بالرجال. اما النساء والشابات فإسمهن في المدينة: عائلات. هذا ما قاله الرجل عندما سألناه عن سبب عدم ترحيب العاملين في المطعم بنا، اذ أوضح انه مخصص للعائلات. وعندما عدنا لنلقي نظرة على العائلات، وجدنا أنها نساء واطفال فقط. في الحي السرياني المتفرع من الشارع العام محال تجارية قليلة، الباعة فيها شبان انيقون وغريبو الأطوار. ثمة شعور يتولد لديك بأنك لست وحدك الغريب في هذا الليل غير الحالك. الجميع غرباء، والباعة الشبان عندما يحدقون بك يشعرونك انك انت القوي، وهم الذين يتفلتون من اسئلتك، حتى تلك المتعلقة بالسلع التي يبيعونها. والمتاجر التي بقيت فاتحة ابوابها في ساعات الليل الأولى في حي السريان، كلها نظيفة. وقد بذل اصحابها جهدهم في ترتيبها وتنظيم واجهاتها، والشابات العابرات من امامها في ليل المدينة الرمادي، قليلات ولا يلتفتن الى الواجهات. انهن من المقيمات في الحي، على الأرجح، ومن المطمئنات الى اهله. لكن الليل الرمادي هنا ليس للتسوق، لذا ربما لا يبدي الباعة حماسة للزبائن في هذا الوقت، وقد يعتقدون ان زبائن هذا الوقت سراب آت من الشارع الذي يقطع المدينة. البائع في المطعم الصغير في الحي السرياني، متقطع الكلام، تارة يندفع الى شرح بعض جوانب حياة الشباب في المدينة وتوقهم إلى تركها، ليتعثر تارة اخرى فيتوقف عن الكلام، ليس لأنه يحاذره بل لأن لسانه لم يعد يسعفه، او ربما لأن الأفكار والصور التي تلي ترك الشباب مدينتهم ليست بديهية. فالرجل لم يغادر المدينة منذ اكثر من سنتين، على ما قال، وهي بعيدة ونائية الى حد يستلزم التصريح عن تركها صمتاً وربما حزناً. المدينة بعيدة نائية، والأمر عنصر آخر في الدراما الداخلية لحياة اهلها. ولهذا الصمت المقيم في كل اشيائها، علاقة بهذه المسافات الشاسعة التي تفصلها عن العاصمة. هذا البعد ليس من النوع الذي بددته وسائل النقل والاتصال الحديثة. ففي الدولة الفقيرة هذه، ما تزال للمسافات معانيها القديمة. الطائرة الوحيدة التي تهبط في مطارها كثيراً ما تتعطل، فلا تنتظم حركتها في رحلات دورية الى المدينة ومنها، واسعار بطاقاتها لم يمسسها الانخفاض العالمي في اسعار بطاقات السفر. الحافلات هي وسيلة السفر الوحيدة تقريباً. اما في ما خص انظمة الاتصال الأخرى كالهاتف، فما يزال السنترال المركزي قبلة الراغبين في التواصل عبر الحدود، وربما مع العاصمة، اذ يبدو الازدحام كبيراً امام غرف التخابر الواقعة خارج مبنى الهاتف. وتشعرك غرف التخابر هذه، بعدما اقفلت البوابة المؤدية الى داخل المبنى، وتولى موظف واحد تأمين طلبات الراغبين في الاتصال ليلاً، بطول المسافة التي تفصلك عن العالم. فالإضاءة خفيفة، والرجال المنتظرون، صامتون ومتجهمون. ولكي تعود الى الفندق من طريق غير تلك التي سلكت، ثمة التفاف عليك السير بموجبه هو التجاوز الوحيد لقاعدة استواء الشوارع وتقاطعها في زوايا قائمة. على هذه الطريق موقف لسيارات تاكسي قديمة الطراز، اجريت تعديلات على هياكلها فأصبح من الصعب تحديد ماركاتها. وعلى طريق متفرعة من هذه الطريق اقام تجار المدينة مهرجاناً للتسوق، حالت العتمة والمصابيح الخافتة دون انعاش سلعه وبعث بعض الحياة فيها. المتجولون في هذه السوق غالبيتهم من الرجال، ويبدو انهم من فقراء المدينة، على رغم انهم استعدوا للمجيء اليها، فارتدى بعضهم العباءات التي يرتديها الرجال شتاء، وتجول الشبان بين السلع غير مدققين فيها، لكن هذا الازدحام لم يحدث ضجيجاً ولا حماسة. لم نتمكن من تجاوز امتار قليلة في هذه السوق، وما ان اقترح احدنا العودة حتى استجبنا جميعنا من دون ان نحاول تفسير سبب عدم جاذبية التسوق في مهرجان تجار المدينة. الفندق الوحيد في المدينة تملكه الدولة، وعلى جدرانه توزعت صور اركانها. من الصعب على نزيل الفندق ان يحدد الاتجاهات الداخلية فيه. فالرواق الداخلي دائري، والنوافذ المواجهة لأبواب الغرف في الرواق مطلة على فناء هو نواة المبنى ونقطة توازنه الهندسي. لكن هذا الفناء فقد وظيفته هذه، وصار مكاناً تركن فيه الخردة والاغراض التي فقدت وظائفها أيضاً، وهي كثيرة في الفندق، فتكاثف الغبار على ضفاف بركة الماء التي تتوسط الفناء، وغطت قطعاً من الطلاء الأبيض البلاستيك المتساقطة الأرض. نزلاء الفندق قليلون، والموظفون حائرون في اثنين منهم جاءا الى الصالون لتمضية بعض الوقت امام شاشة التلفزيون الذي كان يبث خطاباً للرئيس. الموظفون كثر، لكن كثرتهم لا تؤنس، فالعلاقات بينهم غير واضحة، وصمتهم ليس من النوع الذي يفترضه تهذيب النُدل. ثم ان توزع الأثاث في صالون الفندق وعتقه يضفيان اجواء من الحزن والحذر، يقطعهما أحياناً صوت ملعقة تذيب السكر في كوب الشاي الفاتر الذي يقدمه نادل صغير السن، بدا انه لم يألف العمل ليلاً، فظهرت على وجهه علامات الوحشة والاستغراب. الموسيقى التي بدأت، فجأة، تندفع قوية من مكان ما من الطبقة السفلى، لا يبدو انها كانت موجهة الى مستمعين محددين. وقال النادل حين سألناه عن مصدرها، إنها فرقة تعزف للمغنية اللبنانية التي تبدأ بالغناء في مطعم الفندق بعد منتصف الليل. الرواق المؤدي الى المطعم طويل وصور المغنية اللبنانية الشقراء والقصيرة الثوب مذيلة بعبارة "صبوحة لبنان". قاعة المطعم واسعة، والطاولات خالية باستثناء واحدة جلس حولها رجال خمسينيون من المرجح انهم موظفون متوسطو المراتب في اسلاك شبه عسكرية. المطربة اللبنانية لا تطل على حلبة الغناء قبل منتصف الليل، وما ان تبدأ بانتظارها حتى ينتابك شعور مُحبط بالمسافة التي قطعتها حتى وصلت الى هذه المدينة. المطربة اطلت بثوبها نفسه الذي ترتديه في الصورة وافتتحت غناءها بتحية "ابناء بلدي" وراحت تغني للمقاومة في الجنوب اللبناني.