العرف السياسي في الولاياتالمتحدة هو أن يجري التقييم الأول لأداء الرئيس الجديد بعد مرور مئة يوم على قسم تولي المنصب. والغالب أن يأتي هذا التقييم إيجابياً، للرغبة العامة بإتاحة المجال أمام الرئيس للاستقرار في مهامه. ولا شك أن باراك أوباما، للقيمة الرمزية لانتخابه، كما لشخصه وبلاغته ونجوميته، يحظى بإيجابية خاصة، وبالفعل فإن التغطية الإعلامية التي صاحبت اليوم المئة جاءت على الغالب غنية بالثناء على الرئيس الجديد. غير أن ذلك لم يمنع ارتسام معالم خلاف سياسي حاد بينه وبين خصومه الجمهوريين، وذلك على رغم الكلام المتبادل حول ضرورة تجاوز الاعتبارات الحزبية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الولاياتالمتحدة. يكرر الجمهوريون دون كلل الطرح الذي يبدو أنهم قد رسوا عليه لمواجهة شعبية أوباما، والقائل بأن الرئيس الجديد أنفق في الفترة الوجيزة منذ انتخابه ما يتجاوز مجموع ما أنفقه سلفه جورج دبليو بوش خلال الأعوام الأربعة الأولى لولايته، وذلك على رغم أن مصاريف بوش كانت في معظمها مرتبطة بالحروب التي كان على الولاياتالمتحدة خوضها. جواب أوباما هو أنه مكره لا بطل في إنفاقه، بل هو إنفاق موروث تتحمل مسؤوليته الحكومة السابقة، أي الحزب الجمهوري. وإذا كان كلام الجمهوريين ينطوي على مقارنة مجحفة بين حالتين متباعدتين، فإن رد أوباما بدوره يجانب الواقع وذلك لاتساع برامج الإنفاق بما يتجاوز المعالجة الاستدراكية للأزمة الاقتصادية، وهو الشق الإلزامي الذي لا خلاف جدي حوله في الولاياتالمتحدة، ليشمل التصحيح البنيوي لهيكلية الاقتصاد الأميركي، وفق وجهة النظر التقدمية القاضية بتولي الحكومة مسؤولية أكبر في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وهو الأمر الذي يتعارض جوهرياً مع القراءة المحافظة للأزمة وطريقة حلّها. ويشتكي الجمهوريون منذ فوز أوباما من أن البلاد تشهد انحداراً خفياً نحو الاشتراكية، وذلك إثر ضخ الأموال العامة إلى مختلف القطاعات الاقتصادية المتضررة (المصرفية والعقارية والصناعية) مقابل حصة من أسهم هذه الشركات من نصيب الحكومة. وإذا كان المزج بين المال العام والمؤسسات الخاصة مثيرا للقلق لتوّه في الأوساط المحافظة، فإن ما أقدمت عليه الحكومة أثار الاعتراضات المدوية في صفوفهم. فقد سارعت الحكومة في مناسبات عدة إلى فرض وجهة نظرها حول كيفية إدارة الشركات المستفيدة من الدعم، بل طالبت بعض المدراء بالتنحي، واعترضت على مكافآت كانت مخصصة للبعض الآخر، ومنعت هذه الشركات من التنصل من الوصاية الحكومية عبر إعادة المبالغ التي حصلت عليها. وقد اعتبر المحافظون ذلك "تأميماً". ولكن قدرتهم على شحذ التأييد الشعبي لهذه الشركات محدودة بفعل التعبئة الشعبوية التي أمعن فيها الإعلام لأميركي في خضم الأزمة الاقتصادية، والتي جرى خلالها التركيز على الإسراف والبذخ والمكافآت الخيالية التي حصل عليها بعض المدراء، فيما كانت هذه الشركات تسير نحو الهاوية. ورغم أن الخطوات التي يضعها الرئيس أوباما موضع التنفيذ تبقى غير واضحة، سواء لجهة فعاليتها أو لجهة ديمومتها، فإن المسعى الجمهوري لوسمها ووصمها بالإشتراكية لا يلقى التأييد اليوم، ولا بد له من انتظار فشل بعضها على الأقل، كي يصبح ذا تأثير على نسبة من الرأي العام تتجاوز المعادين التلقائيين لأوباما. وبانتظار هذا الفشل، على حتميته من وجهة نظر محافظة، فإن الإعلام المؤيد للحزب الجمهوري يبحث عن صيغة يمكن من خلالها الشروع باستنزاف التأييد الشعبي له. وقد وجد هذا الإعلام في خروج آرلن سبكتر عضو مجلس الشيوخ عن ولاية بنسيلفانيا من الحزب الجمهوري وانضمامه إلى الحزب الديموقراطي شأنا مناسباً في هذا الصدد. فآرلن سبكتر، دون شك، هو من الوجوه البارزة في مجلس الشيوخ، إذ مضى زهاء ثلاثة عقود على دخوله المجلس ممثلاً للحزب الجمهوري. إلا أنه تميز دوماً باستقلالية مشهودة وكان من قلة قليلة من الوجوه البارزة في أوساط الجمهوريين في التزامه بنهج محافظ اقتصادياً ولكنْ محايد أو تقدمي اجتماعياً. والمسألة الفاصلة في هذا الصدد هي الإقرار أو عدمه بحق المرأة في الإجهاض، وهو ما أقرّه سبكتر، رغم هيمنة إنكار هذا الحق على الحزب الجمهوري. وما دعا سبكتر إلى الانسحاب من الحزب الجمهوري والالتحاق بالديموقراطيين هو التباين الشديد في المواقف بينه وبين حزبه القديم. فقد جعل هذا التباين من سبكتر هدفاً معلناً لبعض الناشطين المحافظين المتشددين. ولا يقتصر هذ الاستهداف على النقد المبدئي، بل أن هؤلاء الناشطين قد عقدوا العزم صراحة على التضييق عليه، وصولاً للتحضير لإنزال هزيمة به في الانتخابات الحزبية التمهيدية، قبيل الانتخابات النصفية في خريف 2010. وبدا واضحاً أن احتمالات تحقيق هؤلاء المحافظين لهدفهم لم يعد نظرياً، بل أشارت استطلاعات الرأي في أوساط الناشظين الجمهوريين في بنسيلفانيا، الى أن سبكتر سائر باتجاه خسارة التسمية الحزبية له كمرشح، ولا ينفعه بالتالي أن غالبية أهل الولاية من مؤيديه. فبناء على حساب الربح والخسارة في الانتخابات المقبلة قرّر سبكتر الانتقال إلى الحزب الديموقراطي وخوض لمعركة الانتخابية من خلاله. وخطورة هذا الانتقال هي أن تعداد أعضاء الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ سوف يصل إلى 60، وهو العدد الذي يحتاجه هذا الحزب لمنع المماطلة الشرعية لحزب الأقلية (آلجمهوري). وبدلاً من طرح السؤال البديهي حول صوابية التفريط بمقعد حاسم عبر تهديد صاحبه بالخسارة، فإن الجمهوريين البارزين وعموم الإعلام المحافظ، صعّدوا من الشكوى إزاء أوباما وسبكتر، من خلال التهويل بأن النظام السياسي في الولاياتالمتحدة قد انحدر إلى مستوى الحزب الواحد. فالديموقراطيون في البيت الأبيض وهم في الكونغرس بشقيه وبأكثرية عالية تمنع المماطلة في مجلس الشيوخ. أما الواقع فهو إذا كنت الولاياتالمتحدة تشهد انتقالاً إلى نظام الحكم الواحد، فإن ذلك ليس نتيجة استيلاء الديموقراطيين على الحكم بقدر ما هو عائد إلى تصفية الجمهوريين لحزبهم بأنفسهم.