فيما الاطراف المتنافسة في الحزب الجمهوري للحصول على الترشيح الحزبي ما زالت عديدة، فان المواجهة ضمن الحزب الديموقراطي تقتصر على شخصيتين: آل غور، نائب الرئيس والذي تمكن من رصد اهم الفعاليات الحزبية والنقابية لتأييد حملته الانتخابية، وبيل برادلي عضو مجلس الشيوخ السابق عن ولاية نيوجيرسي. وحتى الأمس القريب، كان غور مطمئناً الى حتمية فوزه بالترشيح الحزبي، وانعكس ذلك تجاهلاً لافتاً لمجهود برادلي الانتخابي. غير ان الحملة الدؤوبة التي قام بها برادلي خصوصاً في ولاية نيوهامبشير ادت الى تبديد اطمئنان غور. فمع توالي الاستطلاعات في اوساط الناخبين المسجلين في الحزب الديموقراطي في هذه الولاية المهمة، اخذت حصة نائب الرئيس بالتقلص، مقابل تزايد متواصل في اعداد الذي يفضلون ترشيح برادلي عن الحزب الديموقراطي. بل ان برادلي اصبح اليوم في الطليعة، فيما غور يسعى جاهداً للعودة الى موقعه السابق. لا يجوز بالطبع المبالغة في تقييم النجاح الجماهيري الذي تمكن برادلي من تحصيله. فهذا النجاح ضيق النطاق من حيث انتشاره المناطقي، ومحدود الفعالية من حيث تخلفه عن اكتساب الفئات النافذة سياسياً وذات التأثير والنفوذ في الحزب الديموقراطي. غير ان برادلي يطرح نفسه بديلاً موضوعياً لآل غور، فيشير الى الصفات والسمات الخاصة به التي يفتقدها غور من وجهة نظره، وصولاً الى التأكيد بأنه هو وحده، من دون غور، يحظى ب"قابلية للانتخاب" على مستوى الجمهور الاميركي ككل. فاحتمالات نجاح الحزب الديموقراطي في المحافظة على الرئاسة مربوطة به. واذا تحقق له الفوز في الانتخابات الحزبية التمهيدية في نيوهامبشير في شباط فبراير المقبل، فان القيادات الحزبية قد تضطر الى مراجعة حساباتها. ويعتمد برادلي في الدرجة الاولى على سيرته وخلفيته كأساس لرسم معالم شخصيته السياسية. ولد عام 1943 ونشأ في بلدة كريستل سيتي في ولاية ميسوري، لوالدين عصاميين. فهو اذن ابن العمق الاميركي الاصيل Heartland، ووليد القيم التقليدية التي تجل المثابرة والنجاح. وتحقق له هذا النجاح في صباه في كرة السلة التي مارسها وبرز فيها في بلدته، فتقاطرت عليه الدعوات للالتحاق بمختلف الجامعات. يذكر هنا ان الأداء الرياضي يلقى اجلالاً واكباراً في الجامعات الاميركية، كما في عموم المجتمع في الولاياتالمتحدة. وتابع برادلي نشاطه الرياضي خلال دراسته الجامعية، وساهم في الفوز الاميركي بالميدالية الذهبية في كرة السلة عام 1965. وبعد فترة دراسية امضاها في اوروبا، انضم الى فريق كرة سلة للمحترفين، واحرز مع فريقه الانتصار تلو الآخر. فبرادلي الرياضي البارز هو، من وجهة النظر الراسخة في المجتمع الاميركي، "البطل" الذي يستحق فائق التقدير. وكان من الطبيعي اذن، بعد ان استنفد برادلي طاقته الرياضية عام 1977، ان يختار معتركاً آخر غالباً ما يخوضه خريجو الفن والرياضة، اي المعترك السياسي. وبالفعل كافأه جمهور نيوجيرسي على انجازاته الرياضية، فجعل منه عضواً في مجلس الشيوخ في الكونغرس عن هذه الولاية. وتبوأ برادلي منصبه وله من العمر 35 سنة، فكان اصغر عضو في تاريخ مجلس الشيوخ. امضى برادلي 18 عاماً في مجلس الشيوخ في الكونغرس ممثلاً ولاية نيوجيرسي، تبلورت خلالها ملامحه السياسية، فانتظم ضمن الخط التقدمي في الحزب الديموقراطي، ولا سيما في مسائل الرعاية الاجتماعية التي حبّذ توسيعها، وتخفيض العبء الضريبي على ذوي الدخل المحدود. وقد يكون قانون الاصلاح الضريبي الذي وضع مشروعه برادلي وتمكن من اقناع الكونغرس باقراره عام 1986 اهم انجاز له على الاطلاق. والانجاز الآخر الذي يعتز به برادلي هو قانون تنشيط للزراعة عبر اعادة النظر بنظم الري التي لم تعد تفي بالمطلوب منها. والواقع ان برادلي، على رغم مثابرته على الحضور والمناقشة في مجلس الشيوخ، كان من المقلين في اعداد مشاريع القوانين. فعلى رغم دوره البارز في مناقشة السياسة الاقتصادية الخارجية، واطلاعه الواسع على الشؤون الدولية، وطرحه المسائل الشائكة، مثل موضوع المنظومة النقدية الدولية، فانه لم يتقدم بمشاريع القوانين التي كان من شأنها ان تنتقل بافكاره من النظرية الى التطبيق. تخلى برادلي عن منصبه في مجلس الشيوخ عام 1995، لينتقل الى قطاع الاعمال ثم الى التدريس في جامعة ستانفورد، الا انه لم يتخلّ عن الحضور السياسي، مستفيداً من السمعة الطيبة التي حققها في مجلس الشيوخ. اذ اقترن اسمه بالهدوء والرصانة، والتعاون الذي يتجاوز الحزبيات، والولاء للعاملين معه وبولائهم له. وانطلاقاً من هذه السمعة، عمد برادلي الى تأليف كتاب يفصل فيه مناقبيته وروحه الرياضية ونظرته الى الاخلاق والقيم. وموضوع كتابه هذا ليس سياسياً بحتاً، الا انه يشكل القاعدة الاساسية التي تقوم عليها حملته الانتخابية، اي الاخلاقية في السياسة. فيلتقي موقفه هذا مع الدعوات التي يطلقها المحافظون الاجتماعيون للعودة الى القيم التقليدية، ولا سيما في اعقاب سلسلة الفضائح المخجلة التي تعرض لها البيت الابيض في عهد الرئيس الحالي بيل كلينتون. وعلى رغم اختلافه مع المحافظين في مسائل جوهرية عدة، ولا سيما منها موضوع الاجهاض، فان المواقف الناقدة التي صدرت عنه ازاء بيل كلينتون والمقربين منه، لسوء سلوكهم، اكسبته تعاطف العديد من الاوساط الجمهورية والمحافظة. ويحاول برادلي ان يضع مناقبيته موضع التطبيق في حملته الانتخابية، فهو تعهد ان لا يلجأ الى التشهير بخصمه آل غور او التهجم على جوانبه الشخصية، بل ان يقصر نشاطه الانتخابي على الاختلاف في مضمون المواقف. غير ان التمييز بين هذين الاسلوبين في المواجهة السياسية قد يكون صعباً. وبوادر انهيار تعهد برادلي بدأت تلوح، وظهرت مثلاً في تشكيكه بسلامة نوايا غور الذي دعا الى الامتناع بتاتاً عن الاعلانات السياسية والاقتصار على المناقشات المطولة. واذا كانت المحافظة هي سمة برادلي اخلاقياً، فان آمال التقدميين معقودة عليه لادراجه خطة شاملة للضمان الصحي ضمن برنامجه الانتخابي، ولتطرقه الى مختلف القضايا التي يوليها التقدميون الاهمية، من الاصلاح التربوي عبر تعزيز الدعم للمدارس الرسمية، الى توسيع نطاق الخدمات الاجتماعية. ويرجو التقدميون في حال لم يتمكن برادلي من الفوز، ان يرغم برنامجه الانتخابي التقدمي آل غور على تعديل مواقفه. ويتجلى مدى حماس التقدميين لبرادلي في التعليق الذي كتبه حديثاً روبرت كوتنر، محرر مجلة "ذي اميركان سبيكتيتور" التقدمية الطليعية، اذ ابدى قناعته ان برادلي لن يخيب آمال التقدميين الذين سبق لهم ان فجعوا بواقع الممارسة السياسية لكل من الرئيسين بيل كلينتون وجيمي كارتر، واللذين اعتمدا المواقف الخطابية التقدمية قبل انتخابهما. والواقع ان قناعة كوتنر قد لا تكون في محلها. ذلك ان برادلي ذو علاقات متشعبة، وبعض اهم التأييد له مصدره قطاعات الاعمال ولا سيما القطاع المصرفي، والتي تتعارض مصالحها في العديد من الاحيان مع توقعات التقدميين. وكان برادلي اكتسب ثقة هذه القطاعات خلال نشاطه ضمن لجنة المالية التابعة لمجلس الشيوخ، لاصراره على تمكينها اشتراعياً من الاستفادة من الاقتصاد العالمي الجديد. فزواج التقدمية والمحافظة الذي يقترحه برادلي قد يكون زواج الماء والنار. ففي حين ان الفائدة الاستقطابية لهذا الخطاب التوفيقي تتجلى في ارقام التأييد المتصاعدة، فان التوصل الى صيغة فعلية ترضي الاطراف التي يستهدفها هذا الخطاب ليس امراً سهلاً. وهنا موطن الضعف في موقف برادلي. ولا شك في ان غور المتمرس جداً في فن المجادلة يترقب الفرص التي تتيح له اخراج هذه التناقضات الى دائرة الضوء.