حتى قبل تحول نتائج الانتخابات الاميركية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية الى دراما في فصول متعددة لا تكاد ينتهي احد فصولها ليبدأ فصل جديد اكثر دراميةً وتأثيراً وتشويقاً تدفع بالعالم كله من أقصاه الى أقصاه الى الوقوف والمتابعة وأخذ درس في النظام السياسي الاميركي بكل تعرجاته وتعقيداته وغرابته ولامنطقيته احياناً - حتى قبل كل تلك البهرجة، كانت هيبة الولاياتالمتحدة الاميركية القطب الأوحد، والدولة السوبر الوحيدة عرضة للتجريح والتهميش حتى التآكل، ولم يعد الكثيرون يعيرون العم سام احتراماً وتقديراً. فمنذ فضيحة لوينسكي قبل عامين التي صدعت هيبة الرئاسة الاميركية ووقارها، وأفقدت اميركا البعد الاخلاقي بعد اتهام الرئيس ومحاكمته بالكذب تحت القسم والتحقيق معه من جانب الكونغرس، ومنصب الرئاسة في اميركا فقد بريقه وسمعته واحترامه. لأن الأنظمة السياسية هي نتاج طبيعي لتلاقح التاريخ والثقافة. والغريب ان نسبة كبيرة من الاميركيين تجاوزت الثلثين بقوا يؤيدون رئيسهم "الخائن". لأن الجميع يعمل ويقوم بما قام به الرئيس. وهذا المجتمع الذي ينتج ويرعى ثقافة العنف، ويحاضر العالم حول الديموقراطية والحريات ويضغط على أوبك لزيادة الانتاج بدلاً من الطلب الى حلفائه خفض الضرائب، تدخل في حرب اقتصادية مع حلفائها الأوروبيين حول الموز واللحوم، وردّ الاتحاد الأوروبي برفع دعوى بقيمة 4 بلايين دولار على اميركا وطالب منظمة التجارة الدولية بتطبيقها في حرب اقتصادية - تجارية بين أكبر اقتصادين وكتلتين في العالم. ولا تزال الحرب الكلامية حول الموز والضرائب والمواد الغذائية المعدلة وراثياً مستمرة بين ضفتي الاطلسي. ان ال"باكس اميركانا" حول العالم بدأت تتلقى ضربات موجعة، ولم تعد أساطيلها وديبلوماسيتها وقوتها تضمن تحقيق النتائج. فمن تدمير السفارتين الاميركيتين في نيروبي ودار السلام في صيف 1998 ورد اميركا المتسرع لتأخذ حقها بيدها من دون الحاجة الى محاكمة وادانة وقصف مصنع الشفاء واعلان الحرب على شخص واحد ووضعه على قائمة ال"اف.بي.آي" لأخطر عشرة رجال مطلوبين وتحويل اسامة بن لادن الى مطارد وارهابي في كفة وفي الكفة المقابلة الدولة العظمى ضد ارهابي واحد ينزل من هيبة اميركا، وصولاً الى تدمير المدمرة "كول" وعطبها وسقوط 17 بحاراً اميركياً ثم توجيه أصابع الاتهام والغمز من قناة اسامة بن لادن مرة اخرى. إن إدمان الفشل الاميركي وحصاده بعد ثمانية أعوام من حكم ادارة كلينتون التي ستودع المسرح السياسي خلال الاسابيع المقبلة، يساهم في تصدع صورة اميركا وتآكل هيبتها في العالم وخصوصاً في عالمنا العربي من خلال فشل عملية السلام، والانحياز الكلي لاسرائيل وتفجر الانتفاضة، وعجز الادارة عن تقديم مقترحات وتحولها الى ساعي بريد للاقتراحات والمطالب الاسرائيلية. وكان الفشل الاميركي لافتاً خلال العام المنصرم من مفاوضات شابرزتاون بين السوريين والاسرائيليين الى مؤتمر جنيف الفاشل بين الرئيسين الأسد وكلينتون الى دراما كامب ديفيد الفاشلة بين عرفات وباراك في الصيف الماضي. وأخيراً، كانت لقاءات باريس وشرم الشيخ ولقاءات فردية بين سيد البيت الأبيض الذي سيرحل عن المسرح السياسي مع فريقه وشخصيات، ومثلت كلها مجموعة من البط الأعرج سواء كان باراك الذي يزايد على اليمين الاسرائيلي المتطرف بشقيه الليكود والاحزاب الدينية مثل شاس وغيرها، أو عرفات الذي يقترب من خط نهايته سياسياً من دون ان يحقق حلمه بإعلان الدولة التي أجلها الى الآن ثلاث مرات. ولا أود الحديث عن الفشل الاميركي في الشأن العراقي الذي يجهر بخرق الحصار وتخرق الحصار معه دول اخرى حليفة لواشنطن - ويعاد تعويم صدام حسين وتأهيله وسط تشرذم وضياع كاملين للاستراتيجية الاميركية المتقلبة تجاه العراق، من الاحتواء المزدوج، الى الاحتواء زائد الإسقاط، الى التشدد اكثر مع العراق والتقارب أكثر مع ايران، الى ان انتهى الأمر بأن تصبح اميركا وبريطانيا - صقور التعامل مع العراق - في خانة الأقلية واصبحتا موافقتين ايضاً على تعويم النظام في العراق عبر السكوت عن عدم عودة المفتشين مع انهما اقامتا الدنيا ولم تقعداها وشنتا قبل عامين حملة "ثعلب الصحراء" ضد العراق - وها هو العراق يدخل في حوار شامل مع الاممالمتحدة من دون شروط، ويتحول التوصيف بينه وبين الكويت الى "الحالة" وليس العدوان، وتتهافت عليه الدول الحليفة والصديقة لواشنطن، ويتم رفع مستوى العلاقات السياسية بينه وبين مصر وتفتح أربع دول خليجية سفاراتها في بغداد، ويقام معرض يجلب الى بغداد عشرات الشركات والمؤسسات. ويغادر المسرح السياسي رئيس أميركي آخر بدأ منذ أيامه الأولى قصفاً للعراق، ووسع مناطق الحظر، وقصف مقر المخابرات العراقية لاتهامها بمحاولة اغتيال الرئيس بوش اثناء زيارته للكويت عام 1993، وختم ادارته بدعم للمعارضة عبر "قانون تحرير العراق" وتخصيص 97 مليون دولار قبل ان يقوم لمدة 4 ايام بقصف للعراق تحت مسمى "ثعلب الصحراء". صدام حسين ونظامه يصمدان بوجه ادارة اميركية اخرى، واذا حسبنا الادارات التي عايشها وتعامل معها صدام فهو رئيس منذ ان كان كارتر رئيساً قبل 21 عاماً - وهو عاصر ادارتي ريغان وادارة بوش وادارتين لكلينتون. نتذكر ما قاله الرئيس بوش الأب عقب انتهاء "عاصفة الصحراء" وهزيمة القوات العراقية وطردها من الكويت، بأن أيام صدام حسين "باتت معدودة"... نعم هذا ما قاله بوش الأب في آذار مارس 1991، وبعد تسعة أعوام، نرى صدام حسين ونظامه أكثر ثباتاً ووثوقاً وشرعية في عيون العالمين العربي والاسلامي، فيما ينظر الى اميركا على أنها المعتدية. ونرى بعداً مهماً هو عجز اميركا عن اقناع العرب والمسلمين بأن ملف السلام ليست له صلة أو ليس مرتبطاً بملف الأمن الخليجي والعراق، فالملفان والموضوعان متداخلان ومترابطان. من العراق انطلق الكثير من العرب لتوجيه سهام الانتقاد وقولة الكيل بمكيالين، ولماذا تطبق قرارات مجلس الأمن بحذافيرها أو يُطالب بتطبيقها على العراق فيما لا تحرك اميركاً ساكناً تجاه اسرائيل وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بها. وأتت الانتفاضة لتضع الانحياز الاميركي الكلي ادارة وكونغرساً وصحافة واعلاماً في الواجهة، ولتصبح الكراهية لأميركا تحت المجهر، ولتحرج اميركا حلفاءها في الخليج الذين اصطفوا بالكلام والخطابات والشيكات في قمتي القاهرة العربية والدوحة الاسلامية لدعم الانتفاضة. خرج حتى أقرب حلفاء اميركا في المنطقة مثل السعودية على لسان الملك فهد ليطالب اميركا بأن يكون لها دور فاعل متحرر من الضغوط الاسرائيلية، وما قاله الملك فهد كان واضحاً. لا يمكن ان يكون الدور الاميركي فاعلاً الا اذا تحرر من الضغوط الاسرائيلية. ثم يأتي وزير الدفاع الاميركي وليام كوهين في زيارته النصف السنوية للمنطقة، فيطوف على دول الخليج الست ومعها مصر والأردن واسرائيل خلال اسبوع ليعلن ويكرر اعادة الالتزام الاميركي والدفاع عن حلفاء واشنطن في المنطقة، وليقول لنا كلاماً حفظناه وهو ان اميركا لن تغادر المنطقة، وهي هنا تبقى ولن تروعها أو تدفعها للمغادرة حفنة من الارهابيين فجرت مقر "المارينز" هنا، أو فجرّت مقر الخبر في السعودية والمدمرة "كول" في عدن. قلة الخيارات وتداخل الملفات وعجزنا عن الدفاع عن انفسنا، وعجز الأقوياء والضعف المتعمد للقوي من جانب الدولة العظمى الوحيدة... كل ذلك يبقي منطقة الشرق الأوسط - الخليج في حالة "ستاتيسكو" دائمة لتخدم مصالح القوى المتنفذة. ولكن استمرار الفشل، والإدمان على الفشل والعجز عن ايجاد حل أو نصف حل للتسوية خلال ثمانية أعوام، ثم تفجرها بوجه الادارة الاميركية، ثم العجز عن انهاء ال"ستاتيسكو" الذي يدفع دول الخليج الى العسكرة والتسلح من دون ان تكون قادرة على استثمار الانفاق العسكري في حماية دولها، ثم اندلاع الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية وانحياز الراعي الاميركي الى جانب المعتدي الاسرائيلي والتخوف من استمرار فراغ دولي باستمرار عدم الحسم لنتائج الانتخابات الاميركية، كل ذلك يدفع بالمغامرين والمتهورين في منطقتنا وعالمنا الى امتحان اميركا التي فقدت هيبتها ومكانتها في عيون هؤلاء - خصوصاً انهم لا يرون فرقاً كبيراً بين جمهوريين وديموقراطيين يتقاذفون الاتهامات بالتزوير والتلاعب والمخالفات وسرقة الانتخابات - مما يساهم اكثر بزعزعة صورة اميركا المهتزة حول العالم. ويزيد الاهتزاز عندما يسأل هؤلاء المتخلفون في العالم الثالث، بعدما انبهروا طويلاً بالنظام الاميركي وتقدمه ودفاعه ومحاضراته عن الديموقراطية، ما الفرق بين مرشحينا ومرشحي اميركا العظمى، ونظامنا ونظامهم؟ إن ادمان الفشل في لعبة عجز الأقوياء وصدأ النظام الاميركي وتحول الحسم في سياق الرئاسة الى المحاكم لتقول الكلمة وليس الشعب مصدر السلطات جميعاً، يساهم اكثر في تآكل البقية الباقية من هيبة واحترام دولة كان ينظر اليها على أنها عظمى ومختلفة عن بقية الدول. * استاذ مشارك، قسم العلوم السياسية - جامعة الكويت