بعد خسارته في الانتخابات التي جرت في حزيران يونيو 1992 بعد مرور نحو سبعة اشهر على انعقاد مؤتمر مدريد اعلن اسحق شامير رئيس حكومة اسرائيل وزعيم الليكود سابقاً متقاعد حالياً انه كان يخطط كي تستمر مفاوضات السلام مع الاطراف العربية مدة عشر سنوات. وقد تنفست العواصم العربية الصعداء عندما سمعته يقول ذلك وهو ينزل عن سدة الحكم ليعتليها اسحق رابين وحزب العمل من بعده، الا ان الخوف من ان يسير الخلف في ما خطط له السلف دفع الاطراف العربية ومعها واشنطن الى استعجال المفاوضات مع اسرائيل والتوصل الى اتفاقات معها، فكان اتفاق اوسلو 1993 وكانت المعاهدة الاردنية - الاسرائيلية 1994، وكان ايضاً خلال هذين العامين وبعدهما بقليل تحقيق تقدم كبير على المسار السوري بحيث تم الاتفاق على نحو 80 في المئة من بنود الاتفاق النهائي حسب المصادر الرسمية السورية، الا ان رابين سرعان ما قتل بعدها وجاء بيريز ليحلّق عالياً الا انه سرعان ما هوى ارضاً مفسحاً الطريق لعودة الليكود الى الحكم بزعامة نتانياهو، فكان الجمود التام على المسار السوري وكان التجميد والامتناع عن التنفيذ حتى لأغلب الاتفاقات التي وقعها نتانياهو واهمها واي ريفر. مرة اخرى تنفس العرب الصعداء مع هزيمة نتانياهو ومجيء باراك الذي اعلن انه يسير في درب رابين بشأن السلام، وقد تصوروه بعد تجربتهم المرّة مع نتانياهو انه ربما كان الفرصة الذهبية او الفرصة الاسرائيلية الاخيرة للتوصل الى السلام قبل ان يصبح مؤتمر مدريد نسياً منسياً وقبل ان تقفل اسرائيل من جديد بوابات السلام وتعود للتفكير ثانية بفتح بوابات حرب اقسى من كل الحروب السابقة تعيد من خلالها رسم خارطة المنطقة على هواها دون ان يردعها رادع عربي متهالك او دولي مفقود في عالم القطبية الاميركية الحرة من اي قيد ومن كل وازع. ومرة اخرى وبينما تعمّ البهجة العواصم العربية، التي كادت ان تتبادل رسائل التهنئة في ما بينها لمجيء باراك، وفي ما بينها وبين باراك لمجيئه منقذاً لعملية السلام، تظهر الاطراف المعنية استعجالاً اكبر من السابق، لاستكمال المفاوضات والتوصل الى اتفاقات تكفل انسحاب اسرائيل مما تحتله وتكفل الاعتراف بها والاستعداد للعيش معها بعلاقات سلام طبيعية. الا ان الاطراف العربية وفي غمرة هذه البهجة فوجئت بباراك يعلن عن مهلة تمتد نحو خمسة عشر شهراً للتوصل الى تلك الاتفاقات، اي حتى نهاية العام 2000 تقريباً، الامر الذي أعاد الى الاذهان تصريح شامير بشأن خطته لمفاوضات تدوم عشرة اعوام. ففي 30 تشرين الاول اكتوبر عام 2000 تكون قد مضت تسعة اعوام بالتمام والكمال على انعقاد مؤتمر مدريد وبدء المفاوضات الثنائية على المسارات كافة، ومع نهاية ذلك العام تكون المفاوضات قد دخلت العام العاشر، والخوف السائد الآن عند البعض وخصوصاً الجانب الفلسطيني هي ان ينكص باراك عن وعده وان تستمر المفاوضات بالتالي الى ما بعد عام 2000. اكد باراك في تصريحاته انه عازم على استئناف المفاوضات على المسارات كافة: الفلسطيني والسوري ومعه اللبناني، ووافق على استئناف المفاوضات مع سورية من النقطة التي توقفت عندها المفاوضات في شباط فبراير 1996، الامر الذي أثار احساساً عارماً في مختلف الاوساط بإمكانية التوصل قريباً الى اتفاق على المسار السوري خصوصاً وان 80 في المئة منه سبق وان تم اقراره في المفاوضات السابقة، والى اتفاق على المسار اللبناني خصوصاً وان باراك تعهد بسحب القوات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية خلال عام كحد اقصى، اي حتى حزيران يونيو عام 2000، وقد ساورت الشكوك المغموسة بالقلق الجانب الفلسطيني نتيجة قراءاته القائلة باحتمال تقدم هذين المسارين على المسار الفلسطيني بكل ما فيه من مشاكل وقضايا معلّقة وبقائه وحيداً الى اجل غير مسمى، الا انه ثمة احساساً في اوساط فلسطينية وغيرها بأن هكذا تقدم - لو حصل - لا يستدعي هذا القلق. بناء على ما هو معلن فان الاتفاق على المسار السوري سيرتكز على انسحاب اسرائيل من كل ما احتلته على الجبهة السورية في عدوان 1967 تنفيذاً للقرارين 242 و338 والاتفاق على المسار اللبناني سيبنى على اساس انسحاب اسرائيل من كل الاارضي اللبنانيةالمحتلة الى الحدود الدولية مع لبنان تنفيذاً للقرار رقم 425 وعند تنفيذها لهذين القرارين على الجبهة السورية تكون قد نفذتهما على ثلاث جبهات ولم تبق سوى جبهة واحدة هي الجبهة الفلسطينية: فقد سبق لاسرائيل ان نفذتهما على الجبهة المصرية بموجب اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية، وعلى الجبهة الاردنية بموجب معاهدة السلام الاردنية - الاسرائيلية، وعلى الجبهة السورية بموجب معاهدة سلام، الامر الذي يعني ان على اسرائيل ان تنفذهما كاملين ايضاً على الجبهة الفلسطينية، خصوصاً وان اتفاق المبادئ الفلسطيني - الاسرائيلي اوسلو نص على ان اتفاق السلام بين اسرائيل والجانب الفلسطيني سيرتكز على تنفيذ اسرائيل هذين القرارين كما ان التصريحات الرئاسية الاميركية نصّت على ذلك ايضاً، وبالتالي فان منطق الجانب الفلسطيني سيكون اقوى في مطالبته اسرائيل بتنفيذ الانسحاب الاسرائيلي الكامل من كل الاراضي الفلسطينية التي احتلت في حزيران يونيو 1967 بما فيها القدس العربية، وتفكيك كل المستوطنات الاسرائيلية الموجودة في الضفة والقطاع وانهاء كل تواجد عسكري اسرائيلي على المعابر وغيرها. فكما انسحبت اسرائيل من سيناء والاراضي الاردنية وكما ستنسحب من الجولان عليها ان تنسحب من الاراضي الفلسطينية، ويجب ان يكون هذا المطلب - الهدف موضع اجماع من كل القوى الفلسطينية من كان منها في السلطة او في المنظمة او خارجهما وان يكون الخط الاحمر الذي لا يمكن التنازل عنه او التفريط به من قبل اي طرف فلسطيني، ولا يمكن اقامة سلام مع اسرائيل من دونه. ومع تصاعد الدعوات والحوارات من اجل استعادة وحدة منظمة التحرير الفلسطينية تمهيداً لبدء المفاوضات النهائية مع اسرائيل يجب ان يرفع شعار: تنفيذ القرار 242 اولاً، وحل قضية اللاجئين ثانياً، فتنفيذ القرار رقم 242 يعني ابطال الحلول التي تحاول اسرائيل فرضها من خلال تجزئتها الحل على المسار الفلسطيني الى حلول عدة حسب كل قضية القدس والاستيطان ونازحي 1967 ويعني ايضاً تمكين الشعب الفلسطيني من اقامة دولته المستقلة من دون ان تكون هذه الدولة منّة او هدية من اسرائيل. يدرك الجميع من فلسطينيين وعرب واسرائيليين واميركيين وسواهم ان القضية الفلسطينية ستبقى قضية العرب الاولى وجوهر الصراع العربي - الاسرائيلي سواء نظر اليه كصراع حدود او صراع وجود، ونتيجة لذلك يدرك الجميع ان كل الاتفاقات التي تعقدها اسرائيل مع الدول العربية سواء كانت مجاورة او بعيدة تبقى مرتبطة ضمنياً بمدى قبول اسرائيل وموافقتها على الحل العادل لهذه القضية استناداً الى قرارات الاممالمتحدة بوصفها القضية التي شغلت الاممالمتحدة والمجتمع الدولي اكثر من اي قضية اخرى سواء من حيث العقود التي استهلكتها او من حيث القرارات التي صدرت بشأنها منذ عام 1947 وحتى اليوم. والاهم من ذلك ادراك اسرائيل جيداً ان اتفاقاتها مع الدول العربية تضع حداً لامكانات التهديد او الخطر الخارجي اما التهديد او الخطر الداخلي متمثلاً بالفلسطينيين سواء في الضفة او في القطاع او حتى في الجليل والمثلث والنقب، وهو الاخطر على اسرائيل، لا يمكن وضع حد له وائتمان جانبه ما لم تتوصل الى اتفاقات معهم تضمن الحل العادل لقضيتهم كما حددته قرارات الاممالمتحدة. * كاتب فلسطيني، دمشق