لم يثر اللغط شأن ثقافيّ عام بقدر ما أثارته مسألة مجموعة وزارة التربية اللبنانية من الفنّ التشكيلي. وهي الآن، أو ما تبقّى منها، في عهدة وزارة الثقافة. فوق اللزوم وغير كاف معاً، ككلّ ما يفرزه الغموض المرافق لانتقال الأموال العامّة، هذا اللغط لا يزال يغذّي أسطورة كنز مفقود تكشف منه، على هوى المناسبات، أجزاء تبعث الأمل وأخرى مخيّبة، وتبقى خريطته مبعثرةً ومتغيرةً أكثر منه. موازنة الدولة المخصّصة لمصلحة الشؤون الثقافية والفنون الجميلة، وهي الجهة التي رعت معارض الخريف والربيع منذ تأسيسها قبيل منتصف الخمسينات، راوحت قبل انهيار الليرة بين خمسين ألفاً ونصف المليون. ثمّ درجت هذه المصلحة على الكتابة الى الوزارات الأخرى والإدارات العامة طالبةً إليها الشراء من معرضي الخريف والربيع لتزيين مكاتبها. طبيعيّ أن تكون هذه المبالغ خصّصت في البداية لاقتناء الأعمال من بعض الفنّانين وتوزيع المساعدات على بعضهم الآخر. ولكن، غير الطبيعيّ، في غياب أيّة سياسةٍ ثقافيّة لشراء الأعمال أو لتحديد "وجهة استخدامها"، بل في غياب الوعي العمليّ لخصوصيّة "البضاعة" وشروط حفظها، أن يظلّ الشراء هو الوجهة الوحيدة لإنفاق مال الفن. الطائفية والمناطقية والمحسوبيّات، بين غيرها من آفات المجتمع اللبناني، أفسدت عمل اللجان شبه المتخصصة المكلفة دورياً اختيار الأعمال. ومهما تكن النيات حسنةً الحرص على تمثيل بعض الطوائف والمناطق التي قد تخرج مغبونةً إذا حكِّمت المعايير الفنية فقط، ومهما تكن المحسوبيات مغطاة قانونياً تشجيع الناشئين، فإن الأعمال التي كدّست، كثقل ميت في مجموعة الدولة، لأسباب غير فنيّة، ومن بينها أعمال "الناشئين" الذين ظلّوا كذلك وظلّت "الدولة" تقتني من أعمالهم الباهتة أكثر من ثلاثين مرّة أي سنة، لا يوقظها من خدرها التشجيعي إلا غياب الموظف الذي كان يدعم هذا الناشئ المزمن أو ذاك. ولن يتحسّن الأمر مع انتقال المسؤولية الى وزارة الثقافة، بل ستصبح المحسوبيّات أكثر سفوراً: تنفيع بعض المناطق عبر شراء مصنوعات حرفيّة قد لا تليق بمعرض فولكلوري قرويّ بأسعار لا تناسبها مقتطعةٍ طبعاً من ميزانيّة شراء الأعمال الفنية. لو لم يحل مبدأ تشجيع الفنانين محل مبدأ السعي الى بناء مجموعة جيدة، بل لو وضعت هذه الأموال بتصرّف هاو متوسط الثقافة يسعى الى بناء مجموعته الخاصة لتكوّنت له، مع هامش تجربة وخطأ يتجاوز عقداً من الزمن، مجموعة تضم كمّاً أوفر من أعمال المكرّسين على الأقل، بل لما غاب عن باله أن الحياة التشكيلية في لبنان لا تنفصل عن تفاعل الجمهور اللبناني مع أعمال العرب والأجانب الذين أغنت معارضهم ملامح الثقافة المحلية. الحرب طبعاً، والإهمال، وغياب الحدّ الأدنى من شروط الحفظ مشروع شراء آلتين لسحب الرطوبة أُوقِف في عهد أحد وزراء الثقافة بداعي التوفير: الحقّ أن ثمنهما كان ستمائة دولار فقط!، إضافة الى "تبخّر" بعض اللوحات المختارة، هذه، من أعمال المتوّجين أثناء نقلها من مبنىً الى آخر اتقاءً للقصف، أفقرت المجموعة كمّاً ونوعاً. وأخبرني أحد الموظفين الذين قضوا عمراً في هذا الجانب من العمل الإداري أن كبار المسؤولين كانوا يستعيرون اعمالاً من مجموعة الوزارة بموجب لائحة رسمية مفصّلة مع تعهد بالرد، لكنه في حياته لم ير أحداً يردّ ما استعار. وفي آخر إحصاءٍ قبل نهاية الحرب، أجراه جوزف أبو رزق وسليمة تتنجي بتكليف من الوزير عصام خوري بلغ عدد الأعمال المتبقية 1124 قطعة. وبعد تأسيس وزارة الثقافة أضيف الى هذه المجموعة، في أقلّ من خمسة أعوام، أكثر من 350 عملاً. لكن إحصاء سنة 1998، الذي أجرته لجنة مؤلّفة مع حفظ الألقاب من مطانيوس الحلبي وسمير مراد وجهينة بدّورة عن الوزارة وسيلفيا عجميان وعاصم سلام وحسن جوني ونقولا نمّار ونزيه خاطر، لم يصل الى عدد تجاوز الألف. وحين ذهبت أخيراً الى الوزارة لأسأل عن مشروع الترميم وعن مصير المجموعة، وربّما عن مشروع المتحف الذي نطالب به لحفظها وإحياء دورها الثقافي، قال لي أحد المسؤولين إنّ آلتي سحب الرطوبة الشهيرتين قد اشتريتا أخيراً، وإنّ مستودعاً مثالياً قد أُعدّ لحفظ الأعمال، وكانت بيننا موظّفة قال إنها ذاهبة في منحة الى مدرسة اللوفر حيث ستقضي شهراً كاملاً نعم! في تعلّم الحفاظ على الأعمال الفنّية. فقلت: فُرجَت. وخرجت متأبِّطاً كتيِّباً سيئ الإخراج رديء الطباعة عن معرض أقامته وزارة الثقافة السنة الماضية، ولسان حالي يقول: ماذا يستطيع وزير يتوسّم فيه الكلّ خيراً أن يفعل بهذا الإرث الغامض؟