تتوالى معارض الكتب في العواصم العربية معرضاً تلو معرض وترافقها برامج هائلة من ندوات وأمسيات ولقاءات. وخلال المعارض تغصّ الردهات الفسيحة والأجنحة بالزائرين الكثر الذين يختلفون أجيالاً وثقافات. بعضهم هم مجرّد زائرين يدفعهم الفضول عادة الى ارتياد عالم المعارض وبعضهم هم من القرّاء الذين ينتظرون هذه الفرصة السانحة كل عام ليتابعوا حركة النشر العربي أو ما تيسّر منها. أما الناشرون الذين يقضون معظم وقتهم متنقلين بين عاصمة وأخرى فلا يبدون متفائلين كثيراً. شكواهم الأولى هي عدم الاقبال "الجماهيري" على الكتاب. والثانية هي صعوبة التوزيع التي تحول دون انتشار الكتاب كما يجب. الثالثة هي الرقابة التي تمنع أو تؤخر دخول الكتاب الى الدول العربية. الرابعة هي القرصنة. الخامسة هي عدم الدعم الرسميّ لقطاع النشر... وقد لا تنتهي شكاوى الناشرين التي تتشابه بين عاصمة وأخرى تماماً مثلما يتشابه القرّاء العرب أو مثلما تتشابه أذواقهم وميولهم... ليس ازدهار حركة المعارض إذاً دليلاً على ازدهار حركة النشر أو حركة القراءة. وليس هو أيضاً دليلاً على ازدهار صناعة الكتاب في كل ما تعني هذه الصناعة الحضارية من أبعاد. فهذه الصناعة لا تزدهر بلا قارئ والقارئ أصلاً شخص مجهول لا يعرف الناشرون مَن هو تماماً ولا ماذا يقرأ ولا كيف يقرأ ولا متى يقرأ. أما الكاتب فهو الضحية السهلة داخل هذه الدوامة: لا كتاب بلا كاتب ولا كاتب بلا ناشر ولا ناشر بلا قارئ... لعل الاحصاءات التي تجريها منظمة الأونسكو دوماً حول حركة النشر العربية تدل بوضوح على أن الكتاب العربي هو في مأزق حقيقي. والمأزق لا يشمل حركة النشر والتوزيع فقط، بل حركة القراءة أيضاً. علماً أن عالماً واسعاً وكبيراً مثل عالمنا العربي قادر فعلاً أن يستوعب أعداداً لا تحصى من الكتب وأن يجعل حركة النشر حركة مزدهرة كل الازدهار. لكن القراءة في عالمنا ما برحت هواية ضئيلة تقبل عليها فئة نادرة أو شبه نادرة. ولوائح المبيعات في المعارض العربية تؤكّد ندرة القرّاء الحقيقيين الذين تعنيهم الكتب الحقيقية. أما القرّاء "الموسميون" الذين يتأثرون بما يطرأ وخصوصاً في عالم السياسة فهؤلاء لا يصنعون واقع القراءة العربية. فمثل هؤلاء القرّاء "ترتجلهم" الموجات الرائجة التي غالباً ما يقترحها الاعلام الاستهلاكي. هكذا تروج "الكتب السريعة" على طريقة الوجبات السريعة وتنتشر العناوين "الباهرة" وتحتلّ اللوائح... لكنها جميعاً لا تستطيع أن تصمد كثيراً في المكتبات بل لا تستطيع أن تصمد أطول من الموجة التي كانت وراء رواجها. طبعاً ليس من المفترض ألاّ يتأثر القرّاء بما يحصل من حولهم سياسياً واجتماعياً. وليس من الخطأ أن يكون الكتاب السياسي معظم الأحيان في طليعة الكتب الرائجة ولا سيما في المراحل المضطربة أو الحافلة بالصراعات والتحولات. فمن حق المواطنين أن يبحثوا عن أجوبة ما في تلك الكتب التي تترصّد مثل هذه الظروف. أما رواج كتب الطبخ وسواها من الكتب "الشعبية" والتجارية فينبغي حذفه أصلاً من قائمة الكتب. تُرى أليس من العيب أن يكون كتاب "فن الطبخ" في طليعة الكتب المباعة في "معرض بيروت للكتاب"؟ أليست هذه الظاهرة "وصمة عار" على جبين هذه المدينة العريقة في صناعة الكتب؟ ولعلّ هذا الوصف ينطبق أيضاً على الكثير من المعارض العربية. وإن نعمت الكتب الدينية والتراثية بما يشبه "الاستقرار" في حركة المبيع نظراً الى الموقع الذي تحتله في حياة المواطنين وسلوكهم فإن الكتب الابداعية هي الأكثر اضطراباً من ناحية الرواج أو المبيع. وإذا استُثنيت بعض الأسماء الجماهيرية أو بعض الظواهر فإن قرّاء هذه الكتب هم الى انحسار وتراجع. كاتب في حجم نجيب محفوظ مثلاً لم يستطع أن "يغزو" السوق مثلما يغزوها الكتّاب الغربيون الذين فازوا بجائزة نوبل. وإذا كان هذا مصير الرواية الرائجة فما تراه يكون مصير الرواية الحديثة التي يغامر الروائيون الجدد في خوضها؟ بل ما تراه يكون مصير الديوان الشعري الجديد الذي يكابد الشعراء الشباب الكثير من المعاناة في كتابته ونشره؟ وما تراه يكون أيضاً مصير الكتب الفلسفية العميقة والرصينة التي تعالج أشدّ القضايا وجودية وجوهرية؟ قد لا ينتهي الكلام عن أزمة الكتاب العربي، بل عن أزمات هذا الكتاب المتعددة. فهي أزمة ناشر لا يعنيه من هذه الصناعة في الغالب سوى الربح كيفما كان. وهي أزمة قارئ لم يدخل الكتاب حياته اليومية ولا أحتلّ جزءاً من تقاليده أو طقوسه. وهي أيضاً أزمة كاتب يجد نفسه ضحية الآخرين الذين لا يتوانون عن اعتبار أنفسهم ضحايا بدورهم... ضحايا السوق والرقابة والغلاء و"الأمية الجديدة" والبيروقراطية... لكن معارض الكتب تتوالى من عاصمة عربية الى أخرى. والردهات الواسعة تزدحم بجمهور كبير يدخل ويخرج. والبرامج التي ترافق المعارض تحفل بدورها بندوات ولقاءات... وحين تهدأ الحركة في اللحظات الأخيرة تظلّ الكتب الحقيقية على الرفوف تنتظر عودتها الى المستودعات... أما المعارض المزدهرة فأضحت أشبه بالمواسم التي لا بدّ منها لصنع واجهة ثقافية للمدن العربية، بل أصبحت أشبه بالمواعيد التي يضربها الزوّار على اختلاف مشاربهم وميولهم، مثقفين أو قرّاء أو مواطنين عاديين ليلتقوا ويفترقوا من ثمّ...