للإبداع صور وللثقافة قوانين ومفاهيم تبنتها السينما الإيرانية في رسم استراتيجيتها، لبناء صناعتها التي تمتد الى عقد من الزمن، كان كفيلاً بفرض حضورها في الساحات والمهرجانات العالمية التي تفتح أبوابها لإيران. وكان آخرها مهرجان قرطاج السينمائي الذي أقيم الشهر الماضي، وشاركت فيه سينماها سعياً منها الى اثبات وجودها والبحث عن نتاجات مشتركة تجسد رؤى المختصين فيها. وقد التقت "الحياة" أحد هؤلاء على هامش المهرجان، هو المخرج والمنتج عبدالرحمن شاهينيان الذي تحدث بداية عن آليات الانتاج السينمائي في ايران، انطلاقاً من تصنيع أدوات الانتاج، واعتبر ان في الامكان النظر الى الصناعة الإيرانية، على هذا الصعيد، بالمقارنة مع ما وصلت اليه من تطور تقني في دول مثل اليابان وأميركا ودول أوروبا، فقال "ان للتقنيات السينمائية في ايران تاريخاً بطول عمر السينما الإيرانية، وهي من أقدم السينمات في الشرق الأوسط وستبلغ مع نهاية هذا العام مئة سنة من العمر. في البداية أنتجنا أشياء سهلة وصغيرة جداً، وقبل سنوات بدأنا بإنتاج أدوات أكثر تقنية لنفيد منها نحن والآخرون. أما عن الكاميرا فلصناعتها اشكالات كبيرة من حيث ضخامة الأرقام المادية التي تتطلبها، اضافة الى حدة المنافسة في السوق مع دول عظمى مثل المانيا". استراتيجية هل تندرج صناعة السينما في ايران في صلب الاستراتيجية الاقتصادية والثقافية للدولة، أم هي نشاط على هامش هذه الاستراتيجية، تقوم به شريحة من أصحاب رؤوس الأموال، لا تفتقد حوافز المغامرة لاستثمار أموالها في حقل السينما؟ - السينما، منذ ولادتها في ايران، كانت تقع على عاتق القطاع الخاص بخلاف وضعها في الدول العربية حيث ضمت القطاعين الخاص والعام. الحكومة الإيرانية شجعت وتشجع هذه الأعمال، كونها ثقافية لا تجارية أو تمثيلية. فالجهاز السمعي والبصري في العالم اليوم هدفه هداية المتلقي الى الطريق الصواب، والى التعايش الجديد في هذا القرن المعروف بقرن العلاقات والحضارات. ونحن كمنتجين ومخرجين وأصحاب مهنة، نرى ان السينما ثقافة قبل ان تكون تجارة، وهذا لا ينفي ان السينما كالسلاسل المترابطة، لكي تنجح، عليها ان تكون متكاملة من حيث الفن والانتاج والسيناريو. ما نسبة الدعم الذي تقدمه الدولة الى الفيلم؟ وما شروط هذا الدعم؟ وبماذا يتمثل؟ بتقديم أموال، أم بتقديم مواد خام؟ - الدولة لا تمنح الأموال، بل تسهل للمنتجين الحصول على قروض مصرفية، اضافة الى تقليص الضرائب على المواد الخام المستوردة عبر شركة "بنيات فارابي" التي تعنى بحماية الانتاج السينمائي. هل صحيح ان الفيلم الإيراني يتوجه الى الجمهور الإيراني فقط؟ وفي هذه الحال، ما هو واقع اقبال المواطن على صالات العرض؟ وهل يتوافر العدد الكافي من قاعات العرض الجيدة؟ - ليس في امكان المنتج الإيراني ان يصنع أفلاماً للإيرانيين فقط، انه يصنعها لكل الذين يحبذون الاطلاع على نتاجاتنا. في ايران هناك الصالات الجيدة وغير الجيدة، وهذه هي الحال في أنحاء الدول قاطبة. ومستوى دخل الشباك عندنا عالٍ، ما يمنح المنتج عائداً ربحياً كبيراً، بعكس بعض الدول التي لا يستطيع فيها المنتج حتى اعادة رأس ماله. هل تقتصر صالات العرض على تقديم الفيلم الإيراني، أم تتعداه الى عرض أفلام أجنبية؟ وكم هو معدل انتاج السينما الإيرانية سنوياً؟ - الصالات الإيرانية تعرض أفلاماً أجنبية، ولكن في شكل محدود، وهذا لا يقتصر على الفيلم الأجنبي بل على الإيراني الذي لا يتجاوز عرضه ثلاثة أسابيع بسبب محدودية الصالات، مقارنة بضخامة الانتاج الإيراني الذي وصل، حتى اليوم، الى مئة فيلم سنوياً، مع التسهيلات التي تقدم لبناء صالات جديدة. وهل تسد هذه الكمية مئة فيلم الحاجة المحلية؟ - بحسب مواصفات السينما لدينا، وكما صرح حديثاً وزير الثقافة الإيراني، علينا ان نصنع فيلمين لكل مليون نسمة، وبما أننا نقارب ال75 مليوناً، إذاً نريد مئة وخمسين فيلماً في السنة. وإذا أردنا انتاج هذا العدد، لا بد من أن نوسع بناء الصالات، والا قبعت أفلامنا في الأدراج. مركز عالمي لاحظنا ان السينما الإيرانية بدأت تحتل مركزاً مهماً عربياً ودولياً، الى درجة ان الدول العربية التي لا تربطها علاقات طيبة بطهران، فتحت أبواب مهرجاناتها وصالاتها للفيلم الإيراني الذي صار صعباً جداً تجاهل أهميته. فأنت كمنتج من داخل مؤسسة السينما الإيرانية، كيف تفسر هذا النجاح، وما هي أسبابه؟ - أحد أسباب نجاحنا في السينما الإيرانية فتح أبواب الثقافة وعدم اغلاقها في وجه المثقفين. السينما والحكومة بدورها تسعى الى التطرق الى كثير من المواضيع ولا تضع أمام المنتج أي عراقيل، حتى لو أراد طرح موضوع الفقر أو الأمية في ايران. بل بالعكس، هي تشجع على اثارتها شرط ان تشخص الوجع وتجتهد في ايجاد الدواء الناجع لإزالة هذا الألم. وفي هذا المجال نجحت السينما الإيرانية نجاحاً باهراً، والحكومة لا تأبه لشيء وهي شجعت عرض أفلام ايرانية من هذا النوع اضافة الى أفلام أجنبية. تعرضت جهات اعلامية مختلفة لقضية الإبداع الفني في ايران وملابساتها منذ انتصار الثورة الإسلامية، كيف يمكن الابداع سينمائياً في ظل رقابة مشددة تحد من حرية المبدع؟ - الرقابة في ايران غير متشددة، لكننا شخصياً لا نقبل أن يدخل أحد غرفة نومنا، والإيرانيون، وكذلك السينما الإيرانية يحرمون هذا التعدي على خصوصية الناس، فرب العالمين وحده ستار العيوب. لكل أخطاؤه، لكننا نبتعد عن ابراز هذه العيوب، ونسعى الى أن نكرم الأخلاق كما سهلها لنا رب العالمين. الرقابة لا تحد من الإبداع، لأنه يندرج أساساً في الرؤية العامة للإيرانيين ولا يتعارض مع تطلعاتهم وعقليتهم، ولكننا منفتحون أكثر في حوارنا. هناك فيلم أنتج في إيران بعنوان "الرجل الثلجي" يتحدث عن الغش الذي يتعرض له رجل أراد السفر الى أميركا، وطلب منه أن يحوّل نفسه امرأة ليسنح "له" الزواج من أميركي يساعده على تحقيق سفره هذا. وبعد أخذ وردّ يرفض الرجل الاستغناء عن رجوليته وينتهي الفيلم بإلغاء فكرة السفر. هذا الفيلم مُنع في ايران، سنة، ولكن بعد نقاشات بين المعنيين السينمائيين وجهاز الرقابة عُرض لأن الجهاز اقتنع بوجود هذه الأمور في الحياة اليومية في العالم، لذلك أقول إنك اذا لم تستطع اقناع الرقابة، كيف لك أن تقنع الناس بما تطرحه! لاحظنا ان كل الأفلام الإيرانية تقريباً، ولجميع المخرجين من سميرة مخملباف ومحسن مخملباف الى أبي الفضل جليلي وابراهيم فروزش وغيرهم، تركز على إسناد أدوار البطولة الى الأطفال. لماذا؟ هل هو تهرب من الرقابة بتقديم الفكرة والمواقف من خلال عالم الطفولة، أم لأن الأطفال يمثلون الفئة العمرية الأكبر من الشعب الإيراني، أم انطلاقاً من اعتبارهم رمز المستقبل؟ - تكلمنا على دور الرقابة وأوضحناه. أما الأطفال فهم رمز مهم في الجمهورية الإسلامية التي تعد أكبر دولة شابة في العالم الآن. لذلك يبحث المخرج عادة عن الغالبية، علماً ان القضية لا تتعلق بالشباب. فمحسن مخملباف لم يتحدث في كثير من أعماله عن الشباب، أما سميرة مخملباف فهي شابة ولا يتجاوز عمرها العشرين، لذلك تتحاور مع من في مثل سنها. وأكثر المخرجين مع بداية انطلاق الثورة كانوا شباباً. الأطفال لدينا يعملون في "حرس الثورة" ويمارسون نشاطات مهنية واجتماعية، لذلك أصبحوا أبطال الجيل المقبل. وهذا ما أكده الإمام الخميني عندما قال ان قائدنا هو الطفل الذي لم يتجاوز سن الثالثة عشرة والذي فجر الدبابات ومنعها من عبور مدينة قره شاه على الحدود العراقية. الشاب أصبح رمز البطولة في المجتمع الإيراني، فلمَ لا تتناول السينما هذا الرمز وتتحدث عنه. فهو جزء من الواقع! علاقة قلما تعرضت السينما الإيرانية للعلاقة بين الرجل والمرأة، هذا الموضوع الذي يشغل أكثر من غيره السينما العربية والأجنبية، كيف تنظر الى هذا الأمر؟ - الموضوع مهم جداً والمجتمع يتشكل من المرأة والرجل، لكن هناك نقاطاً حمراً يجب عدم تجاوزها، لأن ذلك يؤدي الى مشكلات، وعلينا الدخول عبر الأبواب المفتوحة والمعلنة للناس. بعض الأفلام العربية، ويا للأسف، تناول مواضيع لا تهم المتلقي العربي، وقد تضر بالمجتمع فقط من أجل الربح المادي. ومشكلات مجتمعاتنا ليست محصورة في الجنس، بل لدينا أمور أكثر ومفاهيم عظيمة، والسينما اليوم كالفلسفة والكيمياء والتكنولوجيا، أي العلم الذي له قوانينه، ونحن نعمل في هذا المجال. ليست السينما تمثيلاً ولعباً فقط كما يراها بعض الإخوان. في هذا الإطار، هل ثمة تفكير ايراني بانتاج سينمائي عربي - ايراني مستقبلاً عن قضايا الهم المشترك، من مثل قضية القدس؟ - وضعت يدك على الجرح الموجود لدى المثقفين والمتدينين وغيرهم، ألا وهو جرح القدس. وهنا أتوجه الى كل اخواننا وأقول لهم: حبذا لو نصنع أرشيفاً للقدس من صور وأفلام وفنون تشكيلية وموسيقى، أرشيفاً من الألف الى الياء، لأن القدس، ولو حررت، ستظل موضع أرشيف للجيل الحاضر والمقبل. ونحن جاهزون لإنتاج فيلم عن تاريخ المدينة بمساندة دول عربية وإسلامية، لأننا لا نملك أهم منها، وقضيتها ليست صغيرة ويجب عدم الاستهانة بها. وإذا أردنا الوصول اليوم الى هدفنا، يجب أن نتحد ونعمل من أجل بلوغ مآلنا. ونأمل أن تكون بيننا، إيرانيين وعرباً، أعمال الى جانب موضوع القدس، فنحن لدينا جوامع مشتركة كالتاريخ والدين واللغة، لأن العربية هي اللسان الثاني في ايران، وأفضل الطرق وأسهلها للتقارب هي الثقافة، ونحن جاهزون لإنتاج أعمال مشتركة تهم قضايانا، والتلفزيون الإيراني يفتح أبوابه أمام الانتاج المشترك. فهمنا منك ان الدولة ليست الجهة الأولى لدعم السينما الإيرانية، ولكن ما هو موقفها ومدى تعاون المخرجين الإيرانيين، في مجال الإنتاج المشترك مع دول غربية؟ - محسن مخملباف أنتج أعمالاً مع الفرنسيين وقريباً سيكون لنا أفلام مشتركة مع طاجكستان. أما الحكومة فليس لديها اي اعتراض على التعامل حتى مع أميركا، وحدها اسرائيل مستثناة. الثقافة موجودة والأبواب مفتوحة، ما عدا الأبواب المغلقة مع الدول العربية ونأمل بفتحها قريباً. ما هي أسباب سدّ هذه الأبواب؟ - تحدثنا، العام الماضي، مع بعض الجهات العربية عن انتاج مشترك، وسررنا لما آلت اليه المناقشات التي اكتشفنا لاحقاً انها "كلام فاضي". الباب فتح ولمرة واحدة أمام سورية عبر فيلم واحد بعنوان "الرجل المتبقي". اليوم أحاول في تونس فتح الأبواب مجدداً لأن التعامل مع العرب مهم. لماذا عدم الاكتراث أو عدم الاهتمام هذا؟ - يلزم للحديث عن هذا الموضوع أيام لا دقائق. أما عناوين هذا الموضوع فهي أولاً ان الأخوة في الدول العربية يرون، كما قلت سابقاً، ان السينما تمثيل فقط، ونحن نرى انها ثقافة، وليس من الممكن الاتفاق على انتاج مشترك ونحن نختلف أساساً على المضمون. العمل الوحيد الذي اتفقنا نوعاً ما عليه فيلم عن الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني للمخرج الإيراني سيف الله داد، وقد عرض في تلفزيونات البحرين ودبي والسودان والأردن والجزائر على رغم وجود علاقة سياسية جيدة مع الحكومة الجزائرية. ونأمل بالتوصل الى اتفاق سياسي كي نقترب أكثر في مجالي الثقافة والتاريخ، لأنهما الطريق الوحيدة للعمل المشترك.