بعد مرور سنوات على ظهور وانتشار مصطلح العولمة ما زال الاستعمال متعثراً في التصريح بتحديد تصور مفهومي واجرائي يسمح بتناول الظاهرة في سياقها العالمي اولاً، وتمثلها في الثقافة العربية ثانياً ما دام القول بحضور اقتصادي عربي فاعل من باب الادعاء ليس إلا. وحتى اذا التقت تعاريف الكلمة على تسمية العولمة من عناصر الفاعلية الاقتصادية التي تمس حياة الفرد والمجتمعات، وتؤثر في حضورها وتصوراتها للاحداث، فانها تغفل، بالعادة، ارتباطها الظاهرة بالمحدثات التبنية التي صارت سيدة الانتاج الاقتصادي منذ ان خلقت تآزراً بين الظاهرتين المالية والتجارية، واخترقت المسافة التجريدية بين الزمان والمكان في طرائق الانتاج: سواء بانتقال الرساميل والاستثمارات المالية رقمياً عبر البورصات من دون اعتراف بالحدود، وبما مثّله ذلك من اختراق لمبدأ حماية الاقتصاد وأساس للنمو الاقتصادي العالمي منذ انطلاق تصورات فريدمان الداعية الى تحرر الدولة من القطاع العام لمواجهة التضخم واشكال الاختلال بتوسيع حرية المبادلات ومجالاتها دولياً في الثمانينات. وفي هذا السياق يمكن تفسير الظاهرة بمجموعة من العوامل/ الاسباب، التي تتكشف عن بداية الخلل في العلاقة بالانساني، والعجز في تأسيس ثقافة مُعولمة تُضيء الابعاد التنموية من دون التخلي عن الرهانات الكبرى للعالم المعاصر في الانتاجية والاستثمار في المجالات البيئية، وفي الافادة من اتساع الاسواق بدخل مرتفع. فقد نتج المسار الراهن للعولمة في بحثه عن البعد الانساني عن: - اتساع دائرة انتقال الرساميل والاستثمارات التي لم تعد الولاياتالمتحدة مصدرها الوحيد الاساس. اذ ظهرت قوى مالية كاليابان والاتحاد الاوروبي، ما ساعد على الدعوة الى تحرير التجارة العالمية بالحد من العوائق الجمركية واقامة مناطق التبادل التجاري والمالي الحرة. - الارتباط العضوي بين البحث العلمي والتطور التكنولوجي للتحكم في الدورة الانتاجية من المادة الخام الى المستهلك. من استغلال موارد الطاقة الى الهندسة المعلوماتية وبرمجة المنتجات، الى تدبير التواصل والعلاقة بالمستهلك عبر الوسائط العديدة. - ايجاد أنموذج للمستهلك الكوني منمط بالتأكيد، لكنه مُطالب بتحقيق شروط الجودة، والاستفادة من التنافسية، التي صارت الشركات تراهن عليها بإيجاد المنتوج المتجانس عالمياً والاقل كلفة، منذ مراحل اعداده الاولى بالابحاث والتجهيزات الى توحيد معايير توزيعه وانتشاره، وتسويقه واستهلاكه. - وليس اخيراً، التحولات الجيوسياسية التي عرفها العالم غداة انهيار المعسكر الشرقي والاتحاد السوفياتي، وبداية فتح السوق الصينية امام القوى الاقتصادية الاقدر على اقتحام المنافسة فيها. وبقدر ما لهذا البعد الاساس تاريخه الذي كرّس سيطرة المركز الاوروبي على الاقتصاد العالمي والهيمنة الغربية على التاريخ الحديث، وما استدعته تلك الهيمنة من تعميم ثقافة المركز على الافق الانساني، بقدر ما يستنهض الآن خطابات الوعي بالذات في لحظة اقتصادية خاصة في دول الجنوب والعربية منها لما عرفته منذ بداية مسلسل تحرير التجارة من اوضاع صعبة اقتصادياً لهشاشة بنياتها، واكراهات الانفتاح عليها وتضاعف الهوة بينها وبين الانتماء للزمن الحديث، من حيث الافادة من الموارد والمشاركة فيه بالانتاج. ولعل هذه الدول ادركت انها لن تستطيع تجاوز مأزق هذه الوضعية بمعاداة العولمة، ولا بتجميل الدعوة الى أنسنتها ولا باختيار الاستثناء الثقافي مساراً لاسماع صوتها! حتى وان كانت هذه الاختيارات من ممكن العولمة الآن، اذ اصبح النقاش حولها مفتوحاً وفارضاً نفسه على الاوساط المهتمة، وعلى فواعل المجتمع المدني كما أظهرت ملتقيات سياتل ودافوس وبراغ، وعبر محاور عديدة نشير الى بعضها مما يلتقي في البحث عن الافق الانساني للعولمة: التحولات الاجتماعية والخلقية المرتبطة بالانتقال الى مجتمع الاتصال. والقضايا الانسانية المرتبطة بانعدام المساواة في الافادة من الموارد من فرص التنمية. فلا يكفي اتهام اجهزة الدولة في ادوار الفساد المالي والسياسي او النمو الديموغرافي لتغطية حصة الاجحاف الذي نالته دولة الجنوب. والانموذج الاستهلاكي الغربي الذي طغى. * كاتب مغربي.