تشير الدلائل إلى ان تنافس دول العالم على النفط إلى ازدياد، فالحقيقة التي يمكن الجزم بها هي نضوب النفط وبالتالي ندرته. وما يخفف من شكوى ارتفاع الاسعار أن العالم اصبح اوسع ثراء. وتضاعف اجمالي الناتج المحلي الدولي على مدى ربع قرن منذ نشوب ازمة النفط عام 1973 وارتفع نصيب الفرد من اربعة آلاف دولار عام 1973 إلى خمسة آلاف دولار عام 1997 بالاسعار الثابتة. ونما نصيب الفرد في الدول الغنية خلال الفترة نفسها بنحو 50 في المئة ليقارب 23 الف دولار سنوياً. وفي دول الشرق الاوسط تراجع نصيب الفرد خلال الفترة نفسها بنحو السدس. يضاف الى ذلك أن العالم غدا اكثر حاجة للنفط ونما الطلب الدولي على الطاقة الاولية بنحو 60 في المئة، وارتفع استهلاك دول منظمة التعاون والتنمية خلال الفترة بنحو 35 في المئة على رغم الجهود الكبيرة للدول الصناعية الممثلة في هذه المنظمة للحد من احتياجاتها من الطاقة. وتجاوز الطلب الدولي على النفط 25 في المئة منذ 1973 وارتفع استهلاك دول منظمة التعاون والتنمية بنحو 7 في المئة. والسؤال الذي لا ُيمل طرحه في السلم والحرب: هل يجب ان يعامل النفط كسلعة اقتصادية أم كسلاح استراتيجي ؟ وإذا كان لا مناص من التعامل الاقتصادي فهذا يقود الى سؤال متكرر كذلك :هل تُمنح هذه السلعة الفرص لتخضع لنواميس الاقتصاد في الانتاج والتوزيع والتسعير؟ وعقب فترة من التقلب في سوق النفط ولدتها الازمة الاسيوية عام 1997 ولعل من المناسب أن يتقابل المستهلكون والمنتجون ليس بهدف تسييس النفط بل "أقصدته" بالكامل. ويمكن الجدل أن "أقصدة النفط" ستجلب للدول المنتجة سعراً عادلاً أما ما يمارس من "تكتيك" لضبط العرض بما يؤمن سعراً مرضياً فهو يصب في خانة إضفاء بعد سياسي على سوق يجب ان تتخلص من السياسة ، وترتمي في احضان سوق اقتصادية تنصف هذه السلعة الناضبة. ولعل أهم مزايا الحوار بين المستهلكين والمنتجين أن يصوغ الطرفان فهماً مشتركاً لاقتصادات النفط ، فالوضع حاليا أقرب ما يكون إلى نظريتين جزئيتين: المنتجون يلتفون حول العرض فهو يمثل مرتكز عمل منظمة "أوبك" بينما يسعى المستهلكون للتحكم في الطلب بفرض الضرائب الفادحة وتنفيذ برامج وكالة الطاقة الدولية، التي من ابرزها على الاطلاق برنامج إدارة الطلب وهكذا... يمكن الزعم أن الوصول الى فهم اقتصادي مشترك يربط بين العرض والطلب وتحرير قوى السوق هو الاساس لاستقرار سوق النفط على أسس اقتصادية سليمة والاستقرار المستهدف هنا طويل المدى يتجاوز محاولات تثبيت السعر عند حدود معينة. لكن قد يثير مطلب من هذا النوع مخاوف الدول المنتجة تحسباً من انهيار الاسعار. ان هذه المخاوف مشروعة في المدى القصير والمتوسط، لكن لابد انها ستتلاشى في المدى الطويل إنطلاقا من ان معطيات سلعة النفط وتحرير قوى العرض والطلب ستقطع الطريق على الدول المستهلكة وتمنعها من ممارسة النفاق الاقتصادي فهي تريد ان تحرر السوق لخدمة سلعها وخدمتها وتريد ضبط السوق عندما يتعارض ذلك مع مصالحها... وهي تمارس ذلك مع النفط ومع منتجاتنا من البتروكيماويات والالومينيوم وأي سلعة اخرى... وعليه لا بد من الاحتكام لمفاهيم اقتصاد السوق وبالتدرج للخروج من الوضع الحالي المؤدي لكبح جماح السعر في حدود ما ترغب الدول الصناعية الكبرى دفعه. ولعل من المفيد بيان ان معطيات سوق النفط تشير الى ان مصالح الدول المنتجة ستتعاظم في حال صياغة فهم مشترك مع المستهلكين يقوم على أسس اقتصاد السوق بإعتبار ان ندرة النفط هي التي ستحكم العلاقة بين الطرفين. وفي هذا السياق يمكن القول ان ما كانت طالبت به بعض الحكومات المستهلكة عبر سياسييها لزيادة الانتاج يجسد الجهل المتواتر بطبيعة سلعة النفط. فرغبة الدول الصناعية في التعامل مع النفط كقضية سياسية ادت إلى تشوهات أضرت بجميع الاطراف وما تدخل السياسيين الغربيين المتكرر إلا إشارة واضحة على قلقهم من اوضاع السوق. وعليه فالبديل المزيل للقلق هو أن مارس الغرب ما يبشر به: "الرضى بحكم قوى السوق". ومن دون مواربة على الغرب التعايش مع المستجدات، فالخيارات في سوق النفط تبدو صعبة بالفعل، إلا إذا قرر الغرب أن يمارس خيارات خارج النطاق الاقتصادي والإلحاح السياسي، كأن يستخدم قانون الغاب لإرضاخ السعر لحدود يُقررها حكام الغرب وحكماؤه. أما عند اللجوء الى منطق الاقتصاد، وهو علم الندرة على اي حال، تتفاوت التصورات السيناريوهات ويرتفع السعر مع مرور الوقت... لاسباب عدة منها: أن النفط متوافر بكميات محدودة ستستهلك على مدى عقود تقل عن اصابع الكف الواحدة. أن النفط مرتكز في منطقة الخليج العربي، ولهذه المنطقة قدرة محدودة على الانتاج ولا بد من الاستطراد لبيان انه لايوجد لهذه المنطقة بديل لا في بحر قزوين ولا في غيرها. وما يُطلق من حديث عن مناطق بديلة هو مجرد بلبلة تفاوضية لن تؤدي إلى شيء. ولبيان ذلك قد يكفي القول أن احتياط السعودية يقارب 25 في المئة من الاحتياط الدولي، ولايتجاوز احتياط جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق مجتمعة 6.5 في المئة. وتجدر الاشارة ان الدول المطلة على الخليج العربي تختزن اكثر من 63 في المئة من الاحتياط الدولي. ويُضاف الى تركيز النفط في الخليج العربي، ان الشطر الغربي من الكرة الارضية اميركا الشمالية والجنوبية يحتضن اقل من 17 في المئة من الاحتياط، منها قرابة 3 في المئة في الولاياتالمتحدة في حين ان الولاياتالمتحدة تستهلك نحو 25 في المئة مما ينتج. ومهما يكن من امر لايمكن تجاوز التمايز بين نظرة المستهلك ونظرة المنتج للسوق. ولا تخرج سوق النفط الخام عن هذه القاعدة الاقتصادية الاولية. وبفعل هذا التمايز كان جلوس المستهلكين والمنتجين مطلباً صعباً على رغم قدمه. وتفاديا لذلك المجلس الصعب او التحضير له دأب كل من الطرفين بعد انهيار الاحتكارات الكبيرة وتراجع سطوة الشقيقات... ليوجد تكتلا يعاضد منظوره ويؤيد مصالحه فتأسست "اوبك" وتبعتها وكالة الطاقة الدولية، لتتمترس الدول المنتجة خلف "اوبك"، ولتدبر الدول المستهلكة الرئيسية عبر الوكالة خططها ولترسم استراتيجيتها لمكافحة سطوة النفط، ولم تؤد هذه الجهود المنفردة الى استقرار السوق... على رغم اعلان الطرفين انهما يريدان تحقيق ذلك. ولابد من الاقرار فهذا سيفوز بجولة وذاك باخرى .. وهكذا سيكون دائما احد الطرفين غير راضٍ مما ينتج سوقاً ذات طبيعة غير مستقرة. وعند قبول مبدأ التأطير الاقتصادي لسلعة النفط، فعلى المستهلكين تفهم ان احتياط العالم من النفط محدود بالفعل فهو في حدود ترليون برميل ستُستهلك قبل نهاية العقد الرابع من القرن الحادي والعشرين. وعلى رغم تفهم الدول المنتجة الرئيسية لحاجة الاقتصاد الدولي للاستقرار. اما الدول المستهلكة فلها منطقها للتعامل مع الندرة، فهي تحاول الحد من الطلب في دولها بفرض اعلى حد ممكن من الضرائب! فكيف يمكن ان يدور حوار ذو معنى بين طرفين ينتميان الى مدرستين فكريتين متناقضتين ؟! ويبرز التناقض في كل جهد يبذله اي من الطرفين، فوكالة الطاقة الدولية دخلت مخططاً استراتيجياً لاعادة هيكلة الطلب على الطاقة وولدت تقنيات ومنتجات وتعليمات مكبلة تتعلق بالبيئة وانبعاث العوادم ومن ذلك معاملة تميزية للفحم الحجري على رغم انه اكثر تلويثاً للبيئة من النفط بنحو 25 في المئة. اما البلدان المنتجة فبقيت تُخفض الانتاج يوما ثم ما تلبث ان ترفعه... وعانت جميعها تقريباً منذ منتصف الثمانينيات من عجز مالي جعلها تقترض اموالاً تعجز عن سدادها ايرادات النفط على مدى سنوات طويلة مقبلة. هل المناخ الحالي يصلح للدخول في تفاهم يضع سعراً عادلاً للنفط عبر اتفاق بين المنتجين والمستهلكين؟ وهل يعتبر التزام من هذا النوع مجحفاً للدول المنتجة؟ ان الاجحاف يتحقق عندما يفهم استقرار سعر النفط على انه ثبات في قيمته. إذ لا يمكن تجاوز حقيقة ان النفط مصدر ناضب، وان معظم ما يمكن ان يكتشف من مكامنه قد أكتشف بالفعل، وبالتالي سيصبح النفط اكثر ندرة مع مرور الوقت فما يُستهلك لن يُعوض من خلال اكتشافات كبيرة في المستقبل وعليه فالقيمة الاقتصادية للنفط يعني ان تتصاعد تدريجا مع مرور الوقت تصاعداً يعوض عن ندرته. وفي سياق آخر على علاقة بالحوار بين المنتجين والمستثمرين تميزت سوق النفط الدولية تقليدياً بوجود نوعين من المؤسسات: شركات نفط تجارية، ومؤسسات تملكها الدول المنتجة. لكن يبدو ان الخط الفاصل بين اقتصادات النوعين في طريقه للضمور والانحسار والسبب ان شركات النفط الدولية مضطرة لتأكيد كفاءتها وعالميتها في آن معا من خلال تحسين اقتصادات الحجم والنوع وبالمقابل فان مؤسسات النفط الحكومية مضطرة للتعامل تدرجاً وفقا للاسس التجارية وهكذا... نجد ان المحصلة الطبيعية لهذا التوجه ان يصبح قطاع النفط مقسماً بين شركات دولية تمتلك المال والخبرة والبنية التحتية، واخرى وطنية تمتلك وفرة من الاحتياطات ، لكنها متقوقعة ضمن محيط جغرافي ضيق. وقد يؤدي هذا التصور، في حال تحققه، الى ادراك الشركات الدولية مكاسب واضحة، فمؤسسات النفط الوطنية لن تستطيع مهما حاولت ان تخرج تماما من كونها حكومية الملكية، وهذا يؤثر على منظورها الاقتصادي حكماً، وبالتالي على قراراتها ابتداء بالتوسعات الرأسمالية الى ادارة الموارد البشرية ادارة مهادنة تفادياً للضغوط الاجتماعية مضحية بتعظيم الربح. ولن تستطيع كذلك ان تخرج كلية من كون منظورها الجغرافي ضيقاً، فهي ان ارادت اللعب مع الكبار في منتدى العولمة، عليها ان تخلع جلابيب عدة منها التحرر من التوجهات السياسية للدولة المالكة... وهذا لا يمكن ان يتحقق على ارض الواقع. والامر الذي يجعل مهمة شركات النفط الدولية اكثر سهولة ان الدول النامية، بما فيها الدول المصدرة للنفط تتعامل ايجاباً مع التغير في الاقتصاد الدولي وهي تؤيد التخصيص والانفتاح التجاري والتحرير الاقتصادي، و تعمل حثيثاً لإعادة صياغة تشريعاتها ونظمها بما ينسجم مع اقتصادات السوق إجمالاً. وهذا سيؤدي بطبيعة الحال الى جعل مؤسسات النفط الحكومية، مع مرور الوقت تتدرج لتعمل وفق أسس تجارية: هل ستبقى هذه المؤسسات وطنية ام ستتمكن شركات النفط الدولية العملاقة من النفاذ اليها؟ والسؤال الآخر: ماذا نريد لها نحن ان تكون ؟ وكيف نحقق تطلعاتنا وسط تكتل المنافسين واندماجهم ؟! ولعل من الضرورة الاستدراك بالقول ان التحول لا يقتصر على مؤسسات النفط الوطنية، فتراجع اسعار النفط منذ بداية 1998 اثر دون شك على شركات النفط العملاقة تأثيراً مماثلا ما جعلها تقلص استثماراتها في البداية كاداة للتعامل مع التدفقات النقدية المتدنية، لكن اخذت شركات عدة خطوات عملية للتعامل مع الظروف المستجدة في سوق النفط. ويمكن القول ان الاندماجات ستؤثر حتما على هيكلة سوق النفط، وبالتالي على وضع المؤسسات الوطنية المملوكة للدول النفطية إذا ما قررت ان تبقى ساكنة على هيكلتها، ومن ذلك عدد من الاسباب منها: أن تكثيف قرارات الاستثمار والتسويق بين ثلاث أو أربع شركات دولية سيُدخل سوق النفط في احتكار قلة، تملك تأثيراً طاغياً على قرارات الاستثمار وبالتالي التصنيع والتسويق. ان اعادة هيكلة صناعة النفط سيُوجد شركات تملك موارد تؤهلها استهداف مؤسسات النفط الحكومية المالكة لاحتياطات نفطية ضخمة، وتمكنها من احباط مساعي "أوبك" في ضبط المعروض. لكن عند الأخذ بالاعتبار أن الدول المنتجة تملك النفط، وتملك في الوقت نفسه رؤية جديدة للانفتاح على العالم استثمارياً ولاستغلال مواردها استغلالاً اقتصادياً متحرراً من خطوط السياسة الضاغطة، نجد بالتالي أن فرص تحقيق تفاهم اقتصادي بين المستهلكين والمنتجين هو أقرب اليوم مما كان عليه في أي وقت مضى. لكن يبدو أن على الطرفين الوصول الى قناعة مؤداها أن الحاجة هي لشراكة طويلة المدى تحكمها أسس اقتصادية وليس لصفقة تسيرها أجندة انتهازية قصيرة المدى. * اقتصادي سعودي متخصص في المعلوماتية والانتاج.