لعل اندفاع شركات النفط العملاقة للإندماج، وهي التي تحامي دائماً عن ذاتها واستقلالها، يبين أن ما تمر به أسواق النفط ليس أزمة عابرة، بل مرحلة جديدة تتطلب حلولاً جديدة. وبطبيعة الحال لم تحاول شركات النفط أن تعكس اتجاه الريح بل سعت لما هو أقرب للتحقيق فأخذت تنظر للعمل بكفاءة أعلى من خلال اندماجها سوياً خوفاً من أن تضعف بالتدريج نتيجة لتكبدها الخسائر فتتقلص وتصبح عرضة لعروض الاندماج. ويبدو أن هناك إتفاقاً بين المحللين على أن حمى الإندماج ستنتقل من شركات النفط العملاقة الى شركات النفط المتخصصة، واذا ما حقق ذلك بالفعل فإنه يعني أن قطاع النفط العالمي سيعيد هيكلة نفسه. وفي هذه الحال لن يكون مناسباً أن تبقى مؤسسات النفط في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خارج اللعبة، ولن يكون مقبولاً كذلك أن تدخلها متأخرة وهكذا، فنحن أمام مرحلة تحتاج الى استراتيجية ومنهجية جديدتين وليس الى حلول تكتيكية بانتظار رحيل سحابة صيف. والتنسيق النفطي بين دول مجلس التعاون لجهة جميع انشطة صناعة النفط، لا يخرج عن روح الاتفاقات بين الدول الست، إذ تنص المادة الحادية عشرة من الاتفاقية الاقتصادية الموحدة على مثل هذا التنسيق. الخيارات التقليدية ليس من شك أن الدول المنتجة للنفط تمر بفترة عصيبة، اذ لم تعد الخيارات التقليدية التي تلجأ لها منظمة مثل "أوبك" تفي بالغرض، كما أن الدول المنتجة غير متفقة على نهج، فهي تنظر في اتجاهات متعددة تنبع من أولوياتها، بما فيها أولوياتها الإقتصادية وهي متباينة حقاً. ومن جهة أخرى، فانهيار السوق يأتي ليسلب الدول المنتجة ايرادات هي في أشد الحاجة لها للوفاء بالتزامات عدة، ليس أقلها أهمية تمويل برامج الرفاه في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي تعني رعاية صحية للمواطنين من المهد الى اللحد، وتعليماً مجانياً، ومنظومة متنوعة من الخدمات الإجتماعية والشخصية. وهكذا فإن إنهيار أسعار النفط، التي يبدو أن فصل شتاء قارص في النصف الشمالي للكرة الأرضية قد لا يكون كافياً لإعادتها إلى التوازن، أخذ يعني أكثر من مجرد ضائقة نقدية. وعند التأمل في مستقبل سوق النفط، لا يمكن الإهتمام فقط بانخفاض وارتفاع السعر، إذ يمكن القول بعد تجارب عملية عدة خاضتها منظمة "أوبك"، وهي منظمة قامت لفرض سعر عادل للنفط على المستهلكين، أن السعر هو محصلة جملة من العوامل منها العرض والطلب، ومنها بكل تأكيد هيكلة السوق. ويبدو أن هيكلة السوق ستكون العامل الأهم في تحديد مكاسب الدول المنتجة للنفط، إذ قسمت منهجية التأميم، ثم منهجية المنظمات الإحتكارية، مثل "أوبك" المتعاملين في السوق إلى معسكرين: معكسر المنتجين، ومعسكر المستهلكين. ومع بروز جهود وكالة الطاقة الدولية أصبح المعسكران متقابلين في حرب غير معلنة، وكان سلاح وكالة الطاقة الدولية "الفتاك" منهجية "ادارة الطلب". ولم يكن الهدف خفض استخدام الطاقة بل استخدامها بذكاء، وأفرز التعامل الحليم لوكالة الطاقة الدولية والدول المساندة لها مع تطلعات الدول المنتجة الى استحداث منتجات "بيئية" وأخرى للحفاظ على الطاقة. المحاورة والمناورة ان سعي الدول المنتجة لتشكل حزباً نفطياً، جعلها تعقد ندوات للتفاوض في ما بينها مستبعدة بتلقائية الدول المستهلكة. ولعله من المفيد التفكير ملياً في أهمية توجيه جهد التفاوض الى الطرف المقابل، الطرف المستهلك للنفط، لكن هذه المسألة تبقى أكاديمية، فسوق النفط من الهشاشة بدرجة لا تدفع المستهلكين إلى التفاوض مع المنتجين في وقتنا الحاضر. وعليه لا بد للدول المنتجة، خصوصاً دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بحكم ان العالم يعول عليها في تلبية الجزء المهم من احتياجاته مستقبلا، من جلب الطرف المستهلك إلى التفاوض، ولكن بعد استعادتها للمبادرة. وكانت الدول المستهلكة اختطفت المبادرة عندما اخذت تخزن النفط، ومكنتها الدول المنتجة من ذلك عندما أدمنت اعتمادها على إيرادات النفط، وكأن دروس النصف الثاني من الثمانينات لم تكن كافية. وبذلك اصبحت الدول المنتجة بعيدة عن تحديد السعر، إذ تركته لأسواق النفط الورقية الآجلة وللمضاربين الذين يبيعون من النفط اكثر من خمسة أضعاف ما يستهلك فعلاً، مما جعل دور إنتاج "أوبك" في تحديد سعر النفط "خفيفاً". ولعل أقل ما يمكن ان تفعله الدول المصدرة للنفط ان تضع لنفسها مخزوناً استراتيجياً من العملات يفصل زمنيا بين حصيلتها من مبيعات النفط وبين احتياجات تمويل موازناتها العامة، كأن يعادل هذا المخزون الإنفاق العام لعام كامل، ما يمنح الدول المصدرة مهلة لامتصاص تأرجحات اسعار النفط ويخفف بالتالي الضغوط المالية المباشرة على خزائنها العامة. ومن المفيد ان يكون لدى الدول المصدرة من المال ما يكفي لدخولها مع الدول المستهلكة لعبة المحاورة والمناورة. وهي لعبة اشبه ما تكون بعملية "كسر العظم" إذ لا بد فيها من غالب ومغلوب، والقدرة على الصبر لكسب الوقت أساسية: فكل يوم يمر من دون ان تعزز الدول المستهلكة مخزونها يؤدي الى اضعاف موقفها التفاوضي. وكذلك بالنسبة للدول المنتجة، فكل يوم يمضي من دون ان تبيع يعني نقصاً في احتياطها من المال. ولكن كم تستطيع ان تخزن الدول المستهلكة من النفط؟ فمثلاً تستورد الولاياتالمتحدة اكثر من 5،1 بليون برميل من دول "اوبك" فقط في العام، فيما سعة مخازنها المنتشرة في سبعة مواقع في الولاياتالمتحدة تقدر بنحو 550 مليون برميل. وداعاً... أوبك وبغض النظر عن حروب العرض والطلب، تبدو جملة من إشارات الاستفهام تلف الهدف الفعلي ل "أوبك": هل هو حفاظ المنظمة على ذاتها من الزوال؟ أم الحفاظ على استقرار أسعار النفط؟ ولعل الافتراض الأول هو الأقرب إلى الحقيقة، فسعر النفط تحرك منذ 1986 بين 20 و30 دولاراً للبرميل، ثم اتجهت الاسعار إلى التراجع الى ما دون عشرين دولاراً بنهاية عام 1997، ثم انهارت كما هو مشاهد الآن. وعلى رغم ذلك، ستجد من يدافع عن وجود "اوبك" دفاع المستميت، ليبقى السؤال: هل تحقق "اوبك" هدفها؟ ويبدو أن احوال اسواق المواد الخام في العالم عموماً في تدن، وان النفط ليس استثناء، فمثلاً على مدى خمس سنوات فقط حافظ السكر على سعره، وكذلك المطاط والقمح. ولا يمكن اعتبار هذا دفاعاً عن "اوبك" بل لتأكيد ان ليس للمنظمة تأثير كبير على الاسعار، فالأسعار تتذبذب من دون اعتبار كبير لوجود "اوبك"، فمثلاً في الاعوام 1992 - 1996 تذبذب سعر سلة "اوبك" من 44،18 دولار الى 33،16 دولار الى 54،15 دولار الى 90،16 دولار الى 29.20 دولار للبرميل على التوالي. ومن جهة اخرى، فإن المنظمة لم تمنع اسعار النفط من الانهيار في اكثر من مناسبة، كما هي الحال الآن. ومع ذلك ستجد من يحاول ابعاد "اوبك" عن المسؤولية، ويربط انخفاض اسعار النفط بأسباب آنية، والتأكيد على ان تذبذب اسعار النفط هي اصداء لاداء الاقتصاد العالمي بصورة أو بأخرى. لكن الاقتصاد العالمي في نمو مضطرد بمتوسط سنوي تجاوز 3 في المئة منذ 1990. وانعكس هذا النمو في الطلب العالمي على النفط، الذي ارتفع من 67 مليون برميل في 1992 إلى 73 مليون برميل السنة الجارية. والسؤال هو: هل ارتفعت اسعار النفط بما يتناسب مع الطلب المتزايد والنمو الحقيقي؟! التعامل مع تراجع الايرادات وتتفاوت وجهات النظر حول التعامل مع تراجع ايرادات النفط، بين خيارات استراتيجية وأخرى ترتكز على التدفقات النقدية. وأحياناً يتقهقر النقاش ليتناول الاساسيات الاقتصادية ثانية وثالثة ورابعة: هل نريد لاقتصاديات الدول المنتجة للنفط ان تبقى نفطية أم نريدها زراعية أم صناعية أم سياحية أم معلوماتية أم كل ذلك؟ وبعيداً عن الاسئلة الفلسفية، فإن الحصيلة من الدولارات البترولية، هي محك العلاقة: تتوطد علاقتنا بالنفط عند ارتفاع الحصيلة وتتوتر عند انكماشها! ولعل هذا هو الوقت المناسب لأن تجعل الدول المنتجة علاقتها بالنفط محددة الابعاد. وتاريخياً هناك محاولات عدة في هذا السياق منها محاولة ايجاد اقتصاد متنوع يعتمد على مصادر متعددة سادت في السبعينات، ومحاولة جعل الصناعة التحويلية خيارا استراتيجيا في الثمانينات. وفي بداية التسعينات ظهرت موجة التخصيص ثم العولمة، وحاليا تُعزف سمفونية الخدمات. كل هذا والنفط صامد فهو الممول الاول من دون منازع للخزانات العامة لدول مجلس التعاون، ولا يوجد في الافق منافس له. وحالياً تتعدد خيارات التعامل استراتيجيا مع اعتماد ايرادات الحكومات الخليجية كلية تقريبا على النفط، فهناك من يتحدث عن التخصيص بحماس لأكثر من سبب: كأداة لجلب موارد اضافية للخزانة العامة، ولتوسيع دور القطاع الخاص. وبعيداً عن التخصيص هناك من يحمل هاجس العولمة والاندماج، فيتحدث عن جذب الاستثمار الاجنبي كأداة لجلب دولارات اضافية للاقتصاد الوطني. وهناك من يعتقد ان التنويع يتطلب جهداً على جبهات عدة منها السياحة والنقل والتخزين والقطاع المالي. وتظهر في الافق وجهة نظر تقول بأن على دول المجلس ان تعيد تصنيف المؤسسات الاقتصادية التي تملكها، فتقسمها الى قسمين: مؤسسات اقتصادية ومؤسسات اجتماعية، ثم تجعل المؤسسات ذات الصبغة الاقتصادية مراكز ربح تمول الخزانة العامة، وتجعل المؤسسات ذات الصبغة الاجتماعية مراكز تكلفة، مع الاهتمام اهتماماً استثنائياً برفع الكفاءة الانتاجية للفئتين، ليكون على الفئة الاولى جلب اكبر قدر من الارباح، وعلى الثانية تقديم اعلى مستوى ممكن من الخدمة للسكان. المستهلكون هم الشركاء لقد قامت "اوبك" على مغالطة فكرية تقول إن مصلحة المنتجين تكمن في اجتماعهم. وقد يكون هذا المنطق مناسباً لفترة تاريخية ما تحلت بروح تصفية الحسابات بصورة أو بأخرى. أما حالياً فالامر مختلف. إذ وفر نفط الخليج العربي في عام 1997 نحو 74 في المئة من طلب اليابان على النفط و23 في المئة لأوروبا و3،9 في المئة للولايات المتحدة. وهذه ميزة اقتصادية من الانصاف توظيفها توظيفا لا هوادة فيه لمصلحة دول المجلس مباشرة وبعيداً عن مشاغبات بعض دول اوبك. ومقولة ان سلوك اسعار النفط يفسرها قانون العرض والطلب فيها تبسيط مخل بالحقيقة حتى بالنسبة لطلبة الاقتصاد المبتدئين، فهي تهمل مثلاً ان الزيادة في النمو الاقتصادي للدول المستهلكة تزيد من قدرتها على شراء النفط ومنحنا اموالا اكثر نظير تصديرنا له. لكن سعر النفط يتراجع والحصيلة تقل. وهذا سلوك ليس له تفسير اقتصادي معتبر! فخلال العقدين الماضيين نمت الدول المستهلكة ونما معها طلبها على الطاقة اجمالا بما متوسطه 3،2 في المئة، ومن المتوقع ان يستمر النمو بنفس المستوى في العقدين المقبلين. وفي ما يخص النفط، تضاعف استهلاك العالم منه 150 في المئة منذ بداية السبعينات، ومن المتوقع ان يرتفع بمعدلات اعلى في ربع القرن المقبل. مما تقدم، يبرز ان اعتماد الاقتصادات الكبيرة في العالم على نفط دول الخليج العربي اعتماد كبير، وانه يزداد مع مرور الوقت. ويبدو ان ليس امام الاقتصادات الكبيرة ولا حتى حديثة التصنيع خيار آخر غير نفط الخليج، فاحتياطات "اوبك"، والخليج توفر حالياً نحو 30 في المئة من احتياجات العالم، وليس بإمكان منطقة اخرى ان تنمي انتاجها لتوفر 42 مليون برميل يومياً أو ما يمثل 60 في المئة من تجارة النفط خلال ربع قرن. ويبدو ان الاقتصادات المستهلكة للنفط سعيدة بالترتيبات الحالية، فهي لم تبذل أي مجهود يذكر للدخول في شراكة اقتصادية استراتيجية مع دول المجلس على رغم الدعوات المتكررة، فاستثمارات اليابان في دول المجلس متواضعة تقدر بنحو 5،7 بليون دولار، وتعتبر اقل من نصف ما ينفقه اليابانيون في سياحة الولاياتالمتحدة في عام واحد! في حين يبدو ان على اليابان ان توجد لنفسها حضوراً اقتصادياً طاغياً في دول المجلس. لكن لا شيء من ذلك يحدث. ولا تقل اوروبا عن اليابان حرصاً في جعل العلاقة علاقة بيع وشراء... اما الولاياتالمتحدة فتطلعاتها في الشراكة الاقتصادية تنحصر في اندماج بين الأميركتين وتكتل تجاري مع دول على الضفة الاخرى للمحيط الهادي ومهادنة اوروبا ذات العملة الموحدة، وعند القدوم الينا في منطقة الخليج يصبح خطابها سياسياً خلواً من الاقتصاد. ومن الغريب فعلاً ان تروج الاقتصادات الثلاثة للعولمة الاقتصادية في طول العالم وعرضه، وتمارس علاقتها الاقتصادية معنا بمفاهيم مستوحاة من العصر الحجري كالمقايضة. الاندماج قال احد المصرفيين في تعليقه على حمى اندماج شركات النفط: "قد لا تكون الشركة مضطرة للتضحية باستقلالها عندما يكون سعر البرميل 15 - 20 دولاراً، لكن عند سعر 10 دولارات للبرميل فالشركة تريد النجاة". والوقت ربما كان مناسباً لتنظر دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الى العالم من خلال مرآة عاكسة... إذ يبدو ان العالم يرى فينا النفط والنفط فقط. وفي المقابل يجب ان ننظر له مرتدين "عدسات" نفطية لندرك ما يعني هذا النفط للمستهلك، فنلبي احتياجاته مقابل اصرار لا ينثني من جانبنا ان السعر المجزي للنفط هو مساهمة مستهلكيه في انجاز تطلعاتنا الاقتصادية، وليس في تهافتهم على عقود التسليح وزرعهم الوكلاء التجاريين في منطقتنا لبيعنا السيارات الفارهة وترويج الاجازات المكلفة. وليس المطلوب من دول المجلس في هذا الصدد سوى تنفيذ ما الزمت نفسها به، لا سيما والمحك هو قدرة دول المجلس على اقناع هذه الدول للدخول في شراكة اقتصادية استراتيجية تعتمد على عمق وفاعلية التنسيق بين سياسات دول المجلس في مجال الصناعة النفطية بجميع مراحلها، من استخراج وتكرير وتسويق وتصنيع وتسعير واستغلال للغاز الطبيعي وتطوير لمصادر الطاقة. وهو كذلك في عمل الدول الاعضاء على وضع سياسات نفطية موحدة واتخاذ مواقف مشتركة ازاء العالم الخارجي وفي المنظمات الدولية والمتخصصة. ويجب تقويم فرص التنسيق والاندماج بين انشطة نفطية مكررة من باب التوفير والاقتصاد في النفقات وجعل قطاع النفط في دول المجلس اكثر كفاءة. وعلى رغم ان الاتفاقية الاقتصادية الموحدة صرحت ولم تلمح الى أهمية التجانس النفطي بين دول المجلس، فلدول المجلس قدوة من شركات النفط العالمية، إذ اندمجت شركتا "اميكو" و "بريتش بتروليوم" النفطيتان في آب اغسطس 1998، وسمعنا قبل أيام عن صفقة العصر وهي اندماج شركتي "اكسون" و"موبيل". وقيمة الشركتين تعادل تقريباً اجمالي الناتج المحلي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مجتمعة. أما مبررات الاندماج بين تلك الشركات فترتكز حول الاقتصاد في النفقات، إذ ستوفر شركتا "اميكو - بريتش بتروليوم" نحو بليونين من الدولارات سنوياً من تكاليفها. كما أنه من المتوقع ان توفر شركتا "اكسون - موبيل" أربعة بلايين دولار سنوياً نتيجة لاندماجهما. * كاتب اقتصادي سعودي.