ارتكبتُ في حياتي ألف خطأ، وربما ألف ألف، غير ان شيئاً لم أخطئ به هو أنني أدركتُ وأنا طالب في الجامعة أنني أقضي فيها أجمل أيام حياتي، ولم أنتظر أن أتخرّج وأعمل لتُفتح لي أبواب الدنيا على مصراعيها. قبل أيام كتبتُ عن السياسة اللبنانية ما يُزعج، ووعدتُ نفسي والقارئ بأن أعود بشيء أفضل وهو ما أفعل اليوم، فقد توقفتُ في بيروت وأنا بين لندن ودبي، واخترتُ أن أزور حرم جامعتي، الجامعة الأميركية في بيروت، فهو من عمر الزمن الجميل ولم تغيّره حرب أو سلام. دخلت من بوابة على الكورنيش أمام مسبح الجامعة، وجلستُ على مدرج «الملعب الأخضر» حيث شاركتُ يوماً في سباق العدو مئة متر ومئتي متر وخسرت. وتركته لأصعد أدراجاً من الحرم السفلي الى الحرم العلوي، ربما كانت مئة درجة، إلا أن لا مشكلة عندي في المشي، فهو بين أشياء قليلة لا أزال أُتقنها كما كنت أفعل مراهقاً. وحانت مني التفاتة الى اليسار وأنا أبدأ الصعود ورأيتُ مبنى كلية الهندسة، وهي كانت للذكور فقط في أيامي قبل أن تصبح مختلطة. لا أعتقد أن طالبة مرت أمام المبنى من دون أن يعاكسها الطلاب بالكلام او الصفير، فكنا نتهم كل طالبة لا تجد من يُعجب بها بأنها تتعمّد المرور أمام طلاب الهندسة لتسترد ثقتها بنفسها، فقد كانوا في «مجاعة» ويصفّرون لأي تنورة من دون حاجة للنظر إلى من ترتديها. البنات لا يزلن جميلات، والشبان «مش ولا بد»، وانتهيتُ من الأدراج لأقف أمام مبنى الساعة، أو المبنى الرئيسي للإدارة. كنتُ في البكالوريوس طالباً ككل الطلاب، إلا أنني عدتُ الى الماجستير وأنا رئيس تحرير ال «دايلي ستار» التي لم يكن رئيس الجامعة الدكتور صموئيل كيركوود يقرأ غيرها، فقامت بيننا صداقة ترجمها بتصريح يمكّنني من إدخال سيارتي المرسيدس حرم الجامعة، ما لم يستطع كبار الأساتذة أن يحصلوا عليه، وعملت مع زاهي سائقاً للحسان نزولاً وصعوداً في حرم الجامعة. أين ماهر وزاهي؟ أين عبودي ويوسف؟ أين غازي وخالد (رحمه الله)؟ أين طوني وروبير، بعض الأصدقاء لا تزال الصلة معهم، وكأننا على مقاعد الدراسة، وبعضهم غاب عني ولم أعد أسمع عنه شيئاً. مبنى الساعة ضم مكاتب أساتذتي من دائرتي الأدب العربي والتاريخ. هناك كنت أجتمع مع أستاذي المفضل الدكتور إحسان عباس، وأعتبره أعظم أستاذ للأدب العربي في حياته، وأنا أعدّ رسالة الماجستير. كان يحوّلني الى زميل عمره محمد نجم إذا غاب. أذكر من أساتذة التاريخ الراحِلِين الدكاترة: نقولا زيادة وزين زين ومحمود زايد. كان الدكتور زين يحب البنات أكثر مني، وكان الدكتور زايد أستاذي في الصف الثامن من الثانوية، وعاد الى الجامعة بعد أن حصل على دكتوراه من جامعة هارفارد، وعلّمني في الجامعة ايضاً. أما الدكتور زيادة فكان «عمّو» لأنني عرفته صغيراً كبيراً، فقد كان زميلاً لجدي في الدراسة الثانوية، وهو ذهب الى بريطانيا للدكتوراه في حين ذهب جدي الى روسيا أيام القياصرة. وبقي «عمّو» نقولا الذي كان يذهب لزيارة الوالدة وقد تجاوز الثمانين والتسعين ويقول لها: نجلا، اطبخي لنا هذا أو ذاك مما يحب من طعام. وهو توفي في نحو المئة. سرت بضعة أمتار باتجاه «الميلك بار»، أو «بار الحليب» لخلو مقهى الطلاب من الكحول، ووقفت على الدرج حيث كان يقف الطلاب الحزبيون، وهم يأملون بتحرير فلسطين وإنجاز الوحدة العربية. لم نُحرّر الإنسان العربي حتى نحرر فلسطين، والوحدة سراب... قال وحدة قال. ونظرتُ الى مبنى «وست هول» حيث كانت المحاضرات والندوات والحفلات، ووجدت قططاً قررت إحداها أن تنظر إليّ، وسألتها هل أعرفها، وقلت في نفسي إنني ربما عرفت أمها أو جدتها، وربما جدة الجدة. غادرتُ مبنى الجامعة من بوابة كلية الطب وسرت يساراً مع خط الترامواي القديم نحو محطة «غراهام» من اسم صيدلية كانت هناك، وأمامها «هيكل سنتر» وهو مبنى يوفر شققاً مفروشة صغيرة كانت الطالبات الثريات يفضلنه على مساكن الطالبات داخل الجامعة. أين سحر وزهر؟ أين دينا ولينا؟ هل ما زلن جميلات كعهدي، أو حال بهن الدهر بعدي. مجرد أن أذكرهنّ جعلني أعود الى الشعر والقوافي. هي ذكريات الزمن الجميل، وأكمل دامع العينين الى محطة الديك، وأنظر حولي وأعود الى الحلم. [email protected]