زار أمين الريحاني فلسطين في ربيع 1927، واجتمع في القدس بعدد من السياسيين، ثم غادر بعد أن ترك وعداً بأنه سيكتب حول المسألة الفلسطينية. لم ينتظر منيف الحسيني ظهور كتابات الريحاني كي يعلّق عليها، بل سارع في العدد 32 من صحيفته "الجامعة العربية" الى كتابة افتتاحية بعنوان "هذا السلام الذي به يتحدثون" ليقول في سياق ردّه الاستدراكي: "اذا نحن خاطبنا اليوم، فإنما نخاطب الأستاذ الريحاني وحده الذي قيل لنا انه سيكتب شيئاً عن فلسطين، والذي نرجوه، إذا كان ما قيل لنا صحيحاً، أن يحذر الكتابة على أساس ما ألقي في روعه وما دُسّ في أذنه من المعلومات المغلوطة. أو يرى الأستاذ كيف أن المعارضين لم يخجلوا عن الدس له في ان الأمة الفلسطينية ليست أكثر من قطيع من الماشية تنقاد وراء العائلتين؟" والحسيني يقصد آل النشاشيبي وآل الحسيني، ويتوجّس من أن الريحاني سينحاز في كتاباته العتيدة الى بيت النشاشيبي. رد الريحاني في العدد 35 الصادر في 23 أيار مايو 1927، واحتل مقاله الصفحة الأولى. قال الريحاني في سياق رده الذي اتسم باللباقة والصراحة: "اني متحزب للتهذيب القومي الذي يرفع الوطن فوق الطائفة وفوق الأسرة والعشيرة. اني متحزب لكل حزب سياسي عربي زعماؤه وأعضاؤه واحد في الخدمة، واحد في النزاهة، واحد في الجرأة والاقدام، واحد في الثبات وفي التضحية". أضاف مستدركاً ومتناولاً بيت القصيد: "إذا كان الحسينيون هذا الحزب أو منه، فأنا حسيني. وإذا كان آل نشاشيبي وآل طوقان وآل عبدالهادي، كل في ديرته، حزباً عربياً كالذي وصفت، أو من حزب عربي كالذي وصفت، فأنا نشاشيبي طوقاني عبد هادي حسيني معاً". وأكد الأديب اللبناني الماروني أن "المبدأ الجوهري الأولي اليوم هو مقاومة الصهيونية". ثم طرح التساؤلات الآتية على صاحب الجريدة الذي هو حسيني إسماً وفعلاً: "هل تستطيعون أن تقاوموها بشقاقكم وبتحزبكم وبمطاعن بعضكم على بعض؟ وهل يخدم الأمة من يمالئ خصومها، بل يستنجد بخصومها على أبناء بلاده؟". وختم مضيئاً على طبيعة العدو ونهجه وقد اختبره في الولاياتالمتحدة: "أقول وحق ما أقول انكم الآن واقفون أمام خصم يحسن فوق كل شيء المساومة، ويحسن الانتفاع بما يراه فيكم من الضعف والتلكؤ. فهو يرحب بالفرص. ويسلك الى تحقيق أغراضه السبل السياسية والاجتماعية والدينية والمالية كلها. هو الأقلية فيكم ولكنه واحد. وأنتم الأكثرون ولكنكم مشتاقون". إذا كان الريحاني زائراً، ولو في شكل دوري، لفلسطين، ويعمل لقضيتها ضمن إطار عمله الوطني لبلاد الشام والعالم العربي، فإن اللبناني الماروني وديع البستاني أقام في فلسطين وكرّس حياته في الدفاع عن شعبها ضد مستوطنيها. كان البستاني شاعراً وباحثاً. ولكن نتاجه الكثيف في هذا المجال كان أحد وجهي جهاده. أما الوجه الآخر فعبّر عنه بسلسلة لامتناهية من المواقف، وأحدها دفاعه عن عرب البرّة الذين طردوا من أرضهم في كانون الثاني يناير 1922، وقد منحتها سلطة الانتداب البريطاني الى مدير الشركة اليهودية الاستيطانية الأيكا ابرامسون، من أجل "تشجير الرمال". انتدب أصحاب الأرض وديع البستاني للدفاع عن حقوقهم. فتمكن من توقيف الامتياز. ولكن الحكومة المنتدبة التي كان يرأسها بريطاني صهيوني لم توافق على إلغاء الامتياز. لذلك لجأ البستاني الى وزارة المستعمرات البريطانية "وفاز منها بقرار صيانة الحقوق القاضي بتطويب الأراضي المفتوحة وحفظ حقوق المراعي والسكنى". ولكن القرار بقي حبراً على ورق، بل ان السلطة المنتدبة في يافا "أرسلت البوليس المسلح يحمي عمال الشركة اليهودية لطرد الفلاح العربي من أرضه"، في الوقت الذي سعى حاكم اللواء الشمالي الى توقيف البستاني. ويذكر ان الحاكم ليس سوى المستر ابرامسون مانح الأرض لشركة الايكا. وعلّق صاحب الجريدة في ذيل الخبر الذي احتل معظم الصفحة الأولى مشدداً على أمرين: استحالة توقيف البستاني... وان عرب فلسطين "إن سكتوا مدة فإن للسكوت حداً". ولكن البستاني أوقف وحكم بعد محاكمة دامت تسع جلسات، بدليل وقائع المقابلة التي أجرتها "الجامعة العربية" ونشرت في العدد 46 الصادر في 4 تموز يوليو 1927. ولكن الحكم لم يثبط من عزيمة المحامي المتطوع بدليل هذا المقطع من المقابلة: ما مصير العرب وأرضهم؟ - أنا أدافع دونهم ودون أرضهم منذ ست سنين وسبعة أشهر. وأرضهم لم تزل لهم وهم فيها. وقد رددت عنهم كل حيف. ومن حكم عليه معي منهم فقد دفعت عنه ما أصابه من الحكم. وانني واثق من الفوز. كان القضاء في فلسطين يميز "بين العربي واليهودي". لذلك، خُصصت أكثر من افتتاحية وصفحة في "الجامعة العربية" لتأكيد ذلك التمييز وشجبه والمطالبة اليائسة من أجل وضع حدّ له. ويضرب الحسيني في العدد 14 من جريدته الصادر في 7 آذار مارس 1927 أمثلة عدة منها "قضية العامل فهد دعيبس الذي كان يشتغل في مشتل عكا منذ سنتين ولم يحصل على أجرته. وعندما رفع الدعوى على المستر وايزمن المفتش طالباً حقه، أهملت القضية". وفي المقابل فإن مأمور زراعة حيفا يوسف كراد، وهو يهودي، الذي تمادى في مخالفة القانون، "اضطرت شكاوى الأهلين رؤساءه الى التحقيق عنه وأحالت القضية الى دائرة البوليس، ولما تظهر النتيجة بعد". ولكن ادارة البوليس سارعت "الى توقيف السيد سليم عبدالرحمن بدعوى ان له من التأثير في قضاء طول كرم ما يعكر صفاء الجو". على رغم كل ذلك، فإن أصحاب الدوريات الفلسطينية ورؤساء تحريرها لم يترددوا في هدر جزء غير قليل من جهدهم وصفحات دورياتهم، لتبادل الاتهامات من العيار الثقيل. ولم يشذ منيف الحسيني عن القاعدة. فقد خصص الصفحة الأولى ومعظم الصفحة الثانية من العدد 46 الصادر في 4 تموز 1927 للرد على صاحب جريدة "فلسطين" عيسى العيسى حيث أكد في مانشيت الافتتاحية انه "يذكي نار الفتنة ويصير بوقاً للصهيونية". أما كيف بوّق العيسى للعدو، فمن خلال "نقله الأخبار المختلفة عن الجرائد الصهيونية، واذاعته الدعاية الصهيونية الكاذبة التي أضحى يروج لها بنقله أخبارها مع علمه بعدم صحتها". وبالطبع، لم يكن العيسى أقل كرماً في الرد على الحسيني وتضمينه اتهامات من عيار أثقل، مع ان الرجلين عدوان للصهيونية لا عميلين لها. ولكن السبب الحقيقي لتبادل التخوين، هو الخلاف السياسي بين القيادات الفلسطينية آنذاك، وقد عبّر عنه الريحاني ببلاغة كما جاء في مستهل هذه العجالة. يبقى ان "الجامعة العربية" التي تصدر مرتين في الاسبوع موقتاً، قد ظهر عددها الأول في 20 كانون الثاني 1927، اضافة الى أن "ثمن النسخة قرش مصري واحد". * كاتب لبناني.