ثمة تيار يزداد تبلوراً في الساحة العربية السياسية والفكرية العربية الراهنة لا تنطبق عليه النسب والنعوت الاعتيادية والسهلة والتي تستخدم عادة لوصف هذه المجموعة أو تلك من المهتمين بالشأن العام أو الأشخاص، على ما في هذه النسب والنعوت من إشكالات وخلافيات. فمن المعروف ان يقال ان فلاناً من الناس قومي الاتجاه أو اسلامي أو ماركسي أو ليبرالي أو علماني أو غير ذلك. واذا كان من الأكيد ان هذه النسب والأوصاف، وعلى رغم اشكالاتها، ما زالت فاعلة ومفيدة في التعريف بالتيارات أو الشخوص أو التوجهات الفكرية إلا أنه من الواضح ان فاعليتها تتوقف عندما نواجه حالاً من "السيولة الفكرية" حين تتداخل اعتقادات وتوجهات من تستخدم هذه الأوصاف للتعريف بهم، سواء أكانوا أشخاصاً أم مجموعات. وبتحديد أكثر فإن هذه التصنيفات ليست كافية للتعريف بنوعين من الناس: الأول هم المستقلون الذين لا تنطبق عليهم اية نسبة من هذه النسب ابتداء وهذا معروف ولا يحتاج الى شرح، والثاني هم تلك الفئة التي كانت ترى نفسها معرّفة بواحدة من تلك النسب لفترة من الوقت لكنها ما عادت ترى تمثلاً وتعريفاً لذاتها باستخدام هذه النسبة أو تلك، وترى ان حركية الوصف وحزبيته أحياناً أضيق من أن تحشر نفسها فيه، هذا من دون اضمار أي موقف سلبي من هذه الأوصاف أو التوزيعات الفكرية المنطوية تحتها. وبكلمة أخرى هناك تجمعات من المثقفين والسياسيين والحزبيين السابقين امتلكت تجربة في العمل السياسي. والإيديولوجي، العام والحزبي، لكنها "تخرّجت" من أحزابها وتنظيماتها إما بسبب غلبة الهم العام على الحزبي، أو لأية أسباب أخرى، ووجدت نفسها تلتقي في منتصف الطريق مع "خصوم" الأمس الفكريين الذين هم بدورهم غادروا مربعاتهم الحزبية الصارمة باتجاه فضاء الوسط العام والتقوا مع القادمين الآخرين من الاتجاهات الأخرى. ولأن نمط هجرة هؤلاء جميعاً نحو منطقة الوسط يتسم بمميزات خاصة غير حزبية ولا أهداف قصيرة المدى من ورائها، وليست محمولة على روافع المجاملات الحزبية، أو اقحام "الرغبة في العمل الجبهوي" المشدود الى اتجاهات متناقضة أحياناً تعبر عن أهداف الأطراف المنضوية في ذلك النوع من العمل، ولأن درجة الالتقاء مع "الآخر" عميقة وغير متوترة وتعددية، ولأن ثمّة خصيصة مهمة تميز هؤلاء "المهاجرين الى الوسط" وهي ايمانهم بالديموقراطية، فإنه من الجائز لنا ان نرصد الحركة العفوية لتكون هذه المجموعات ونطلق عليها اسم تيار "الوسط الديموقراطي". إذاً هذا التيار يقوم على دعامتين أساسيتين هما الوسطية الفكرية والديموقراطية. وفي السطور التالية محاولة لتبين آلية تشكل هذا التيار العفوي التشكل، والخصائص المميزة له عن بقية التيارات في الفكر العربي الحديث. كيف تبلور هذا التيار وهل هو جديد؟ في البداية يجب معالجة التباس معرفي قد يتبادر الى الأذهان، إذ قد يقال ان هذا التيار "الوسط الديموقراطي" ليس الا اسم جديد لتيار قديم الحضور في الساحة العربية وهو ما اصطلح على تسميته بالتيار التوفيقي الذي حاول "جمع الأضداد" الفكرية والذي رصده بدقة محمد جابر الأنصاري. وأو أنه احد التيارات الثلاثة الرئيسة التي، بحسب تصنيف محمد عابد الجابري، تنازعتها اشكالية النهضة العربية منذ قرنين من الزمان وهي تيار الدعوة التوفيقية رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وتيار الدعوة الى اتباع نهج وحداثة الغرب والقطع مع التراث شبلي شميّل وسلامة موسى وتيار العودة الى الأصول والتراث الأفغاني ومحمد عبده. تيار "الوسط الديموقراطي" المعاصر يختلف في طريقة تشكله وجوهر مضمونه عن التيار التوفيقي التقليدي من زاوية أساسية هي تقديمه للديموقراطية كمدخل لاستكناه "الحل"، وبذا فهو لا يطرح حلاً جاهزاً "توفيقياً"، بل يعطي الأولوية الى طريقة ومنهج الوصول الى الحل. ان العديد من مثقفي العرب في الوقت الراهن، ممن ينطبق عليهم وصف "وسطيون ديموقراطيون" إذا ما ووجهوا بالسؤال عن رأيهم في الحلول المناسبة التي يقترحونها للمعضلات الكبرى التي تواجهها المجتمعات العربية فإن اجابتهم تحوم حول الدعوة الى "ضرورة التفكير والحوار والوصول الى قناعة شبه جماعية بجوهر المعضلة المعنية ثم بكيفية حلها". ان ذلك يعني ببساطة عدم التسرع بتقديم حل معلّب، وهو لا يعني في ذات الوقت الهروب من مواجهة المعضلة. انه دعوة الى "ديموقراطية الحل" التي تقود الى معالجات أقوم بعد أن يتم تبنيها تحت ضوء الشمس وبعد ان تشبع بالنقاش وتنتقد ويتم تسديدها ومقاربتها حتى تستوي على سوقها. بعد هذا التوضيح الأولي يمكن الحديث عن الخصائص الأهم لتيار الوسط المعاصر وهي الآتية: أولاً: تتمثل البؤرة الجاذبة في هذا التيار ليس في وجود "برنامج" سياسي جديد يطرح على الشارع العربي أو "ايديولوجية" منافسة لما هو موجود أصلاً، بل تتمثل هذه البؤرة تحديداً في "غياب" أي "برنامج" أو "ايديولوجية" كمضمون لهذا التيار. وبدلاً من ذلك فإن ما يحتل موقع البؤرة هو ببساطة الدعوة لتبني الديموقراطية ك"منهج" يضبط التحرك السياسي والاجتماعي العام بين أطراف الجماعة السياسية المتعددة، سواء بين النظم والمعارضات، أم داخل أجهزة النظم والمعارضات نفسها. وبكلمات أخرى فإن مضمون هذا التيار هو الدعوة الى "منهج" للصراع السياسي وليس الدعوة الى "فكرة" سياسية منافسة تدخل الحلبة وتصطرع مع الأفكار الأخرى. وهذا لا يعني بالطبع تغليب نظرة أرثوذكسية خلاصية تجاه الديموقراطية كما يحذر بحق جورج طرابيشي تنظر لها كخشبة الخلاص النهائي لكل أزمات ومعضلات العرب، خصوصاً مع التوكيد إثر التوكيد على ان الديموقراطية هي المنهج الى المعرفة وليست المعرفة ذاتها. وأنها، الديموقراطية، ليست هي الحل، بل هي أقصر الطرق الى الحل وأقلها كلفة ودموية. ثانياً: تقديم السوسيولوجيا على الايديولوجيا. يظهر المثقفون الذين يمكن نسبتهم الى هذا التيار اهتماماً أكثر بمواجهة الواقع الاجتماعي والسياسي والانطلاق من هذا الواقع نحو صياغة حلول أو الدعوة الى التغيير، واهتماماً أقل بأي بنية ايديولوجية فوقية ترى انها تملك الحل في ما لو تم تطبيقها دفعة واحدة أو بالتقسيط. ولأن مشكلات واقعنا ومجتمعاتنا العربية مركبة ومتشابكة وذات أبعاد كثيفة تاريخية، فكرية، سياسية، اقتصادية، استراتيجية، موضوعية،... الخ فليس ثمة قناعة عند الوسطيين بأن الحل الحاسم لهذه المشكلات موجود في الايديولوجيا، بل في اصطراع الحلول المطروحة من قبل الجميع واختبارها على أرض الواقع وبالتالي تبلور أيها أنفع للناس. ومثل هذا الاختبار لا يمكن إلا أن يتم في بيئة حرة ديموقراطية تتساوى فيها القدرة على عرض "المشروعات" والدفاع عنها أمام الرأي العام الذي ستكون له الكلمة الفصل في الاختيار، لأنه هو الذي سيتعرض لنتائج هذا الاختيار نفعاً أم ضرراً. ان تجربة العرب السياسية والفكرية في القرن العشرين وحتى الآن لا تترك مزيداً لمستزيد لجهة فشل التطبيق الإيديولوجي التعسفي والفوقي في المجتمعات والدول العربية. وهذا الفشل لم يستثن واحداً من التيارات. فالليبرالية القصيرة الأمد التي سبقت المد القومي فشلت في مواجهة العلاقة مع القوى الخارجية واتهمت برهن بلدانها للخارج، فضلاً عن تراخيها في قضية فلسطين. والقومية الثورية فشلت هي الأخرى في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي رسمتها لنفسها كالوحدة والحرية والتحرير. والماركسية العربية لم تفلح لا في بناء المجتمع الاشتراكي العادل، ولا في إحداث تنمية صارمة. والعلمانية المتطرفة فشلت هي الأخرى في تقديم نموذج جاذب لا يصطدم مع غالبية المجتمع ولا يقيم حروباً نخبوية ضد بقية شرائح الشعب. والإسلامية الحركية فشلت هي الأخرى، سواء معارضة في معظم البلدان العربية أم حكومات في السودان وايران، في تجاوز أياً من المشكلات التي لم تستطع حلها بقية التيارات، بل أسوأ من ذلك انها جاءت برزمة جديدة من المعضلات أضافتها الى القائمة الطويلة أصلاً. والمشكلة الأعوص في ديناميات تطبيق الحلول والايديولوجيات المذكورة انها جاءت فوقية قسرية تعادي بعضها البعض لدرجة الاقصاء والافناء لكنها جميعاً تشترك بخصيصة الاستبداد وفقدان الجوهر الديموقراطي الذي يتيح نقدها وتعديلها وتصويب مسارها وهي في الحكم. وفقدان هذا الجوهر هو الدافع الأساسي الذي يحرك من تنطبق عليهم صفة الوسطيين للدعوة الى تبنيه كونه آلية التصويب والتسديد واختبار الأفكار والتطبيقات. وبالتالي قلب المعادلة رأساً على عقب والتركيز على الانطلاق من الواقع السوسيولوجي بمناهج ذات حلول يتزاوج فيها الفكر مع التكنوقراط، وليست محمّلة بحمولة ايديولوجية معيقة عن الحركة. ثالثاً: توزع هذا التيار في صفوف التيارات الفكرية الأخرى. ليس معنى الحديث عن تبلور تيار وسطي ديموقراطي نفي وجود توجهات ديموقراطية عند التيارات الفكرية القائمة، قومية، إسلامية، ليبرالية، ماركسية وغيرها. خصوصاً أنه من الواضح ان الخطاب العربي بتلاوينه الفكرية المتعددة وكذا البرامج السياسية للأحزاب المجسدة لتلك التلاوين بات يتزايد تبنيها، سواء الدعائي أو الحقيقي، للديموقراطية، ولعلنا نتفاءل ونقول ان بعضها بات يعتبر الديموقراطية واحداً من المكونات الأساسية للمشروعات الفكرية والسياسية التي يدعو لها. وإذا كانت درجة القناعة بالديموقراطية تختلف من تيار لآخر ومن مجموعة لأخرى داخل كل تيار، فإن "المعتدلين" في قلب بنية هذه التيارات يكونون في العادة الأكثر ديموقراطية وهم بالتالي "وسطيون" يمثلون امتداداً ضرورياً وفاعلاً في هذه الأوساط، بل ربما أكثر فاعلية من أقرانهم "الوسطيين" من خارج الأحزاب. ان انتشار هؤلاء المعتدلين في طول وعرض التيارات والأحزاب يقوّي من "اللحمة الوسطية" التي تخترق أفقياً التشكيلات الفكرية والسياسة العربية، وتؤسس لمستوى مرتفع من التوافق والاجماع الوطني. وفي المقابل فإن الهوامش المتطرفة الاقصائية أياً كان موقعها تعمل على خفض مستوى ذلك التوافق وشطره عمودياً الى الجذور. معنى هذا ان وجود الأفراد الذين يوصفون ب"المعتدلين" في داخل أحزابهم ويوصفون ب"الوسطيين" خارج أحزابهم لا يعني انهم أقل "وسطية" من الآخرين ولا يجب أن ينظر له نظرة سالبة عادة ما تلحق بالحزبيين وانخراطهم في "مشروع محدد". وقد أثبتت التجربة العملية ان هؤلاء الوسطيين هم الجسور التي توصل بين التيارات المختلفة وتحسّن من امكان التلاقي والتلاقح والبحث عن صيغ غير تصادمية ومتواضعة في افتراضها ل"امتلاك الحلول". وفي كل حالة قوي فيها هذا التيار في حركة أو حزب سياسي في أي بلد عربي يمكن أن نلاحظ قدراً أوضح من الاستقرار، وعقلانية أفعل في التعامل مع الواقع، وبعداً أوعى عن الحروب الأهلية والصراعات الدموية. والمهمة التاريخية التي تحملها تيارات ومجموعات الوسط داخل الأحزاب وحولها هي في مطامنة الكبرياء الحزبي والفكري وتحويل القناعة المطلقة وشبه الغيبية ببرنامج الحزب أو الحركة المعيّنة الى قناعة نسبية، وإزالة "أل" التعريف المخيفة من كلمة "الحل"، لتصبح "حلاً" يحتمل الصواب والخطأ، النجاح والفشل. رابعاً: العزوف عن اقامة حزب أو تنظيم يجسد الفكرة. ليس على جدول اهتمام الوسطيين، ولا يجب أن يكون، هدف اقامة حزب أو حركة تتجسد فيها الفكرة الديموقراطية الأساسية التي يدعون اليها. فمن ناحية أولى هم لا يملكون ما يمكن أن يعبأ برنامج سياسي وفكري متكامل، ولا يجب، من ناحية ثانية، أن يحجموا الفكرة الديموقراطية في اطار حزبي ضيق يتصادم أو ينافس الأحزاب والحركات الموجودة. الأهم من اقامة حزب أو حركة تتبنى الديموقراطية كبرنامج سياسي هو العمل باتجاه دمقرطة الحركة السياسية والفكرية العربية وبث الروح الديموقراطية فيها، بحيث يصبح احترام الرأي الآخر أمراً يخرج من دائرة الفضيلة والتباهي، ويدخل دائرة الممارسة العادية والمتوقعة والتي لا تنتظر شكراً عليها أو تثميناً لها. ودمقرطة الحياة السياسية والفكرية العربية ليست مربوطة فقط بدمقرطة أنظمة الحكم، ذاك ان تمظهر الاستبداد في هذه الأنظمة هو الوجه الكالح والمباشر لغياب الحياة الديموقراطية في معظم، ان لم يكن كل، مستويات الحياة الاجتماعية والسياسية الأخرى. فالشكوى من غياب الديموقراطية والتذمر من سيطرة حلقة ضيقة من الأفراد، أو فرد واحد بعينه، تكاد لا تستثني حزباً أو حركة سياسية عربية. وهي أيضاً، أي سيطرة الرأي الواحد، تجهض عمل الإدارات العامة والخاصة، وتشوّه الفضاء الاجتماعي على مستوى البنيات الأولية كالعائلة والقبيلة وسوى ذلك. اضافة الى ذلك، فإن تجسّد الفكرة الوسطية الديموقراطية على شكل حزب يعني انخراط هذا الحزب عاجلاً أم آجلاً في صراعات ومطاحنات هنا وهناك، بما يحرفه عن مساره ويثقل من حركته، ويفقد الفكرة الديموقراطية بريقها. بل قد يخلق لها أعداء غير متوقعين لأسباب غير موضوعية من مثل تبني هذا الحزب مواقف سياسية معينة لا ترضى عنها حركات أو تيارات أخرى فيصبح موقف هذه الحركات أو التيارات، أو حتى الموقف الشعبي، رافضاً لفكرة الديموقراطية نفسها بسبب ارتباطها بهذا الموقف السياسي أو ذاك. والمثل الأبرز هنا هو خطيئة ربط الديموقراطية بالسلم مع اسرائيل، ومن أن أياً منهما سيقود ويقوّي الآخر. وعلى رغم هشاشة هذا الربط وعدم علميته بالدرجة الأولى، فإنه، وهذا هو الأهم، يضر بالدعوة الديموقراطية نفسها أيما ضرر خصوصاً في ضوء عدم الشعبية الكاسحة لخيار السلام مع اسرائيل على مستوى الرأي العام العربي. على ذلك فإن ما هو أفعل وأكثر جدوى لخدمة الدعوة الديموقراطية هو تعمق تيار الوسط الديموقراطي وانتشاره في البنى الفكرية والسياسية والاجتماعية وحتى القبلية القائمة. في ضوء هذه الخصائص وفي ضوء الاتساع المتزايد لرقعة ووجود هذا التيار يمكن ان يتفائل المرء بعض الشيء، ويتأمل بأن يسهم هذا التيار في عقلنة ووسطنة واعتدال الفكر والسياسة العربية على قاعدة الديموقراطية، وبالتالي تهدئة أعصابها حتى تواجه ما يجب ان تواجهه بقدرات أكبر وأفعل. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.
