في دورة الالعاب الاولمبية السابعة والعشرين التي انتهت قبل ايام في مدينة سيدني الاسترالية، "قتل" السباح الهولندي بيتر فان دن هوغنباند العملاقين الروسي الكسندر بوبوف، محتكر لقبي سباقي 50 متراً حرة و100 متر حرة في الدورتين الأولمبيتين السابقتين، والأسترالي إيان ثورب الذي يمثل القوة الضاربة الجديدة في ميدان الرياضة المائية بفضل ميزاته الفنية والبدنية العالية، وأهمها مقاس قدميه البالغ 51. ولم يكتف فان دن هوغنباند، صاحب الوجه الطفولي 22 عاماً، بقتلهما رياضياً، بل كان جزاراً لرقميهما القياسيين العالميين في سباقي 100 متر حرة و200 متر حرة اذ سجل في الاول 84،47 ثانية، وفي الثاني 35،45،1 دقيقة، علماً أنه أول سباح في تاريخ سباق 100 متر حرة ينزل تحت حاجز ال48 ثانية بعد 15 عاماً من نزول الأميركي ماث بيوندي تحت حاجز ال49 ثانية، و25 عاماً من نزول الأميركي الاخر جيم مونتغومري تحت حاجز ال50 ثانية. صحيح أن فان دن هوغنباند لم يأتِ من المجهول لزحزحة عرشي بوبوف وثورب، لأنه توّج نجماً مطلقاً لبطولة أوروبا في تركيا العام الماضي بحصوله على 6 ذهبيات، وعادل الرقم القياسي في عدد الذهبيات في بطولة واحدة الذي كان بحوزة الألماني مايكل غروس منذ العام 1985. وفي هذه البطولة الاوروبية تحديداً، ألحق الهولندي ببوبوف أول خسارة له في سباق 100 متر حرة في بطولة كبرى، إلا أن أحداً لم يتوقع ان يحقق إنجازيه التاريخيين، خصوصاً في ظل نتائجه العادية هذا الموسم، والتي تجسدت في عدم حصوله على اي لقب في بطولة أوروبا التي سبقت الالعاب الاولمبية في تموز يوليو الماضي في هلسنكي، حتى أنه أعلن بنفسه قبل انطلاق منافسات الدورة الأولمبية الأخيرة أن هدفيه ينحصران في إحراز ميداليتين تتوزعان بين أحد السباقات الفردية التي سيخوض منافساتها وسباق آخر في التتابع. وبالفعل حصد فان دن هوغنباند الخيبة الكبيرة في ظهوره الأول مع الفريق الهولندي للبدل 4 ×100 متر حرة، وفشل في بلوغ الدور النهائي، في حين قاد ثورب الفريق الاسترالي الى تحقيق انتصار تاريخي على الأميركيين في السباق ذاته بزمن قياسي عالمي مقداره 67،13،3 دقائق، علماً أن الأخيرين لم يُمنوا بأي هزيمة فيه في تاريخ مشاركاتهم في البطولات والدورات كلها. وعزز ثورب إنجازه بعد ساعة واحدة فقط باحراز ذهبية سباق 400 متر حرة، وحطم رقمه العالمي عندما سجل 59،40،3 دقائق. واعتقد الجميع في هذا الوقت أن انهيار هوغنباند محتم أمام فورة ثورب غير المحدودة في سباق 200 متر حرة في اليوم التالي، والتي اقترنت بهدف إضافة اللقب الى رصيده، وضمان ثنائية سباقي 200 متر حرة و400 متر حرة على غرار الروسي سادوفوي والنيوزيلندي لودر في دورتي الألعاب الأولمبيتين في برشلونة 1992 وأتلانتا 1996 على التوالي. لكن البطل الهولندي خالف كل التوقعات وفجر مفاجأة من العيار الثقيل عندما حطم الرقم القياسي العالمي الذي كان في حوزة ثورب ذاته. ولم يزعزع الفوز الهولندي ثقة الاستراليين بقدرة بطلهم على الرد في المواجهة النهائية المباشرة بينه وبين فان دن هوغنباند، لكن ثورب قابلها بأعصاب مشدودة نتجت عن الإحراج الكبير الذي تسبب به الهولندي لشخصه ومكانته على أرضه وأمام جمهور بلاده الذي ناهز 17 ألفاً في الحوض الأولمبي. في المقابل وثق فان دن هوغنباند من أن رقمه القياسي العالمي ليس وليد الصدفة في ظل امتلاكه التقنية الأكثر مثالية، والتي بذل التضحيات الكبيرة لتطويرها منذ حلوله رابعاً في سباقي 100 متر حرة و200 متر حرة في دورة ألعاب أتلانتا 1996. وهي ارتكزت على اكتساب طاقة السباحة الأكبر عبر تكثيف عدد ضربات اليدين في الماء، واللذين يستفيدان من عملية التمدد الأقصى والاندفاع بالكتفين المسافة الأطول في ظل ثبات كبير لحركات الجزء العلوي وليونة غير محدودة لحركات الجزء السفلي. واكتسب البطل الهولندي هذه المهارات والتقنيات على يدي مدربه وصديقه الدائم جاكو فيرهايرن، الذي أشرف في السابق على تدريب اينغه دي بروين أيضاً. واخر اكتساب هذه المهارات بدء تألقه في ميدان المنافسة القوية، خصوصاً أنه قلص برنامج تدريبه من 20ساعة اسبوعياً الى 9 ساعات، متذرعاً بارتباطاته الجامعية في معهد الطب في ايندهوفن، والذي سبقه إليه والده، الذي شغل منصب طبيب فريق ايندهوفن لكرة القدم في عام 1997. وهو ما ادى الى إخفاقه الكامل في بطولة أوروبا في إسبانيا التي حقق فيها فضية وبرونزية في سباقي البدل 4 ×200 متر حرة و4 ×100 متر حرة على التوالي. وكانت دروس هذا الإخفاق مفيدة لفان دن هوغنباند لجهة عدم الاكتراث بالتعب، والسعي الى بذل المزيد من الجهد لتطوير مستواه الفني. وأخضع البطل الهولندي منافسه ثورب لمشيئته في الدور النهائي، وخطب ود الذهبية بعد سباق متكافئ حتى الأمتار الأخيرة معادلاً رقمه القياسي العالمي الذي سجله في التصفيات. ورافقت شحنة الثقة الكبيرة فان دن هوغنباند في تحديه لبوبوف في سباق 100 متر حرة، علماً أن المواجهة الأخيرة بينهما كانت في بطولة أوروبا في هلسنكي وحسمها البطل الروسي لمصلحته واحتفظ أيضاً بالرقم القياسي العالمي ومقداره 21،48 ثانية، وكان سجله في لقاء موناكو عام 1994. ووجه البطل الهولندي تحذيراً أولياً لبوبوف وباقي منافسيه ومن بينهم الاسترالي مايكل كليم والأميركي غاري هول جونيور وصيف دورة أتلانتا 1996، عندما حطم الرقم العالمي مسجلاً 84،47 ثانية في الدور نصف النهائي، وحسن الرقم العالمي الذي سجله كليم قبل ثلاثة أيام فقط 18،48 ثانية. وتخلف بوبوف تحديداً بفارق نحو ثانية عن فان دن هوغنباند في تصفيات الدور نصف النهائي، قبل أن يتقلص الى 39 جزءاً من الثانية في النهائي، ما كرّس فشله في الانضمام الى السباحتين الاسترالية دن فرايزر والمجرية كريستينا ايغيرزيغي في الاحتفاظ بلقب احد السباقات في ثلاث دورات أولمبية متتالية. وبالطبع استفاد فان دن هوغنباند من حوض "هادئ" بسبب ضعف منافسيه في الدور نصف النهائي، لكنه واجه تحدياً ثلاثياً ممثلاً ببوبوف وكليم وهول جونيور. وهو عانى من رد فعله الأضعف في الانطلاق الذي استغرق 87،0 ثانية ، قبل أن يتقدم بسرعة هائلة وينهي أسطورة بوبوف التي استمرت 8 أعوام. وبات البطل الهولندي ثاني سباح في تاريخ الألعاب الأولمبية يحرز لقبي سباقي 100 متر و200 متر حرة ويحطم رقميهما القياسيين العالميين في دورة واحدة بعد السباح الأسطوري الأميركي مارك سبيتز في دورة ميونيخ 1972، والثالث الذي جمع بين اللقبين بعد سبيتز ومواطنه مايك وندن في دورة مكسيكو 1968. ومن اهم مميزات فان دن هوغنباند الرئيسية الدائمة هو احترامه الدائم لمنافسيه، ولذا فهو لم يؤيد "التعليقات" التي هدفت الى التقليل من قيمتي ثورب وبوبوف بعد خسارتهما أمامه ووصفهما بالسفيرين الرائعين لرياضة السباحة، واعترف بموهبة ثورب الخارقة وغير العادية، وبتجسيد بوبوف مقومات السباح النموذجي، معلناً أنه لن يملك أبداً مثل سجل البطل الروسي اوروبياً عالمياً واولمبياً. وربما كان فان دن هوغنباند محقاً في تصريحه الأخير، إلا أن الوقت لا يزال متوافراً له لتعزيز سجله بالإنجازات البارزة، خصوصاً في ظل اعتقاد الخبراء بامتلاكه مقومات السباح المثالي وصولاً الى دورة الألعاب الأولمبية المقبلة في أثينا عام 2004. والأهم أنها لا تخضع للشكوك حول تناوله المنشطات، حيث أكد اكتفاءه بتناول بعض الفيتامينات فقط، من دون أن يمنع ذلك إعلانه استعماله مادة الكرياتين في إحدى الفترات، قبل أن يتخلى عنها بسرعة، بعدما لمس تأثيراتها المحدودة على عروضه. وإضافة الى صفة الاحترام كرّس فان دن هوغنباند دائماً صفة التواضع خصوصاً في التعامل مع باقي سباحي منتخب بلاده شبه المغمورين والذين افتقدوا شهرته وتقديره الكبير لموهبتهم. وهو حرص على مكافأتهم باعتبارهم ركيزة تطور أدائه بحسب قوله عبر منح فريق البدل 4 × 200م متنوعة برونزية دورة سيدني، علماً أنه خاض السباق بأسلوب "جنوني" من أجل تعويض تخلف زملائه الثلاثة وهم مارتن زويدجيك ويوهان كينخويس ومارسيل وودا، وكأنه يسعى لتحطيم الرقم العالمي. يذكر أن البطل الهولندي أضاف برونزية سباق 50م حرة الى رصيده في الدورة الأولمبية الاخيرة، بعدما حلّ خلف الأميركيين انطوني ايرفين وهول اللذين تقاسما الذهبية. ويبقى أكبر دليل على تواضع فان دن هوغنباند احتفاظه بطابع تصرفاته البسيطة التي تكرس مقولة أن كسب الاحترام يوجب عدم السعي الى الاضطلاع بدور بارز، وهو اعتاد ألا يرفض إجراء أي مقابلة صحافية أو القيام بتصوير حصصه التدريبية قبل أن ينبهه مدربه فيرهايرن أخيراً إلى تأثيراتها السلبية خصوصاً لجهة تشتيته عن تركيزه الكبير، مما دفعه الى الاستعانة بمدير اعمال للاهتمام بهذه الأمور.