في تطور لافت للأزمة التي يخوضها العراق في مواجهة المجتمع الدولي منذ غزوه الكويت في آب اغسطس 1990، وصلت طائرة مدنية أردنية الى بغداد، وسرعان ما أعقبتها طائرة مدنية أخرى من صنعاء، لينقسم المراقبون، على الأثر، في تفسيراتهم لهذه الخطوة، فمنهم من ذهب الى أنها مقدمة لرفع الحظر الجوي مرة واحدة والى الأبد، بعد أن ظل مفروضاً على النظام العراقي منذ عشر سنين، فيما ذهب فريق آخر الى ان هبوط هاتين الطائرتين في مطار بغداد لا يعدو كونه تظاهرة رمزية تهدف الى اظهار التعاطف مع النظام العراقي في مشهد استعراضي لا يسمن ولا يغني عن جوع. في كل الأحوال ستقودنا هذه التظاهرة الى سؤال كبير: هل هي مقدمة لحل المسألة العراقية التي أرّقت الكثيرين، ولا تزال تؤرقهم؟ أم هي مجرد تداعيات لا تلبث أن يتلاشى تأثيرها؟ لكن ينبغي علينا، ونحن نضع اجابة لهذا السؤال، ألا تأخذنا العجلة، فنلهث وراء أنصاف الحقائق من دون أن نضع النقاط فوق الحروف. فالأمر يتطلب نظرة متعمقة وتحليلاً متريثاً للمسألة العراقية في ضوء الوضع العربي العام. في البداية لا بد من ملاحظة ان هذه الطائرات التي قيل انها تحمل على متنها أغذية ودواء وأغطية، انما حملت على متنها أيضاً مجرد تحرك رمزي يظهر أصحابه من خلاله تضامنهم مع الشعب العراقي بطريقة هي أقرب الى إبراء الذمة أورفع العتب في المستقبل، اذ يريد بعض العرب أن يثبتوا في سجلاتهم انهم كانوا أكثر تعاطفاً مع العراقيين من غيرهم. وهو أمر لن يجدي شعب العراق مثلما يود له بعض الخيرين، ذلك ان النظام الحاكم في بغداد سوف يحتكر وحده استثمار هذه الدعاية لمصلحته، تاركاً الشعب العراقي يتضور من الجوع ويرزح في أغلال الكبت والقهر والخوف وراء قضبان السجن العراقي الكبير. لكن هذه المعاناة لن تبارح الشعب العراقي، بل ان وطأتها لن تخف من فوق كاهله إلا إذا عمد محبو العراق والساعون لخير شعبه الى انتهاج طريق جاد للعمل المتواصل والجذري يشترك فيه هؤلاء، بهدف تخليص شعب العراق من معاناته من دون أن يجني نظامه الدكتاتوري شيئاً من ثمار هذا المشروع. فالمشاركة بإرسال طائرة رمزية الى مطار بغداد قد يفرح بها النظام العراقي من أجل استخدامها كمظلة دعائية تبشر الشعب العراقي برفع قريب للعقوبات الدولية من جهة، وتؤكد من جهة أخرى ان النظام كان دائماً على حق فيما اقترفه ازاء جيرانه وشعبه، وهي أهداف آنية لا تقترب حتى من قشور المسألة العراقية المزمنة. وعلى سبيل المثال لم تأت الطائرات بالماء، للشعب العراقي، على رغم ان الدراسات المتوافرة في هذا الشأن مخيفة بل مرعبة، فالعراق سيواجه في المستقبل القريب، ان لم يكن قد واجه بالفعل، شحاً خطيراً في المياه، فالنهران الكبيران دجلة والفرات بدأت مياههما تضمحل، بل أصبح بالامكان في بعض المناطق العراقية أن يشاهد امتداد التصحر والانحسار للأراضي الخضراء، التي كانت تسمى أرض السواد، لتتحول مع الوقت بفعل فاعل الى صحراء قاحلة. هذا التصحر الذي أخذ يلتهم الأراضي العراقية جاء نتيجة لهذا العبث السياسي الذي استمر النظام العراقي يمارسه طويلاً، فأصبح العراق غير قادر على التحكم في شماله، وغير قادر على التفاوض مع جيرانه الشماليين، الأتراك، للتوصل الى حلول معقولة لمسألة تقاسم المياه، بل ان المستقبل يحمل معه نذر شر سيحيق بمقدرات الشعب العراقي من المياه، اذا نفذت تركيا كل الخطط المرسومة لإنشاء السدود التي تزمع اقامتها على نهريها الواصلين الى العراق، مما يضفي ضباباً كثيفاً على مستقبل الشعب العراقي. قضية المياه إذن من التحديات الخطيرة والمزمنة التي يواجهها العراق، والتي يتعين عليه أن يسارع الى التوافق مع جيرانه لايجاد حلول ناجعة ومستديمة لها، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق ما لم يكن هناك استقرار داخلي ورضا خارجي، حتى يرتكز أي اتفاق مائي على أرضية من الثقة المتبادلة هي غير موجودة الآن على الجانب العراقي. وتظل الحريات العامة وحقوق الانسان في العراق هي قضية القضايا، أو - إن شئنا مجاراة التعبير العراقي نفسه - هي "أم القضايا". فالانسان العراقي مقهور الكيان مهدور الكرامة، مضيع الحقوق، مبعد عن المشاركة في تقرير مصير بلاده. وهذه الطائرات العربية التي تحمل الكثير من الدعاية والحماسة و"القليل" من الغذاء والدواء، لن يكون في مقدورها ايجاد حلول لهذه الأزمة الانسانية والمجتمعية، التي تكبل المواطن العراقي وتحول بينه وبين نيله نصيبه من الحياة الكريمة. ولعله لم يعد يثير دهشتنا الآن هذه المقارنة التي أجراها رئيس النظام العراقي، في حديث أخير له، بين الدول الديموقراطية التي يحكمها عدد كبير من الناس ولذلك فإن اتخاذ القرارات فيها يستغرق وقتاً طويلاً وبين العراق الذي يمثل النظام الشمولي الديكتاتوري والذي يحكمه قلة يمسكون بأيديهم كل خيوط القرار السياسي. ولذلك فإن القرار عندهم يولد في سرعة لحظية لأنه لا يحتاج الى دراسة ولا الى مراجعة. والذي نسي صدام قوله أن هذه "الوصفة" هي المستنقع الذي تعيش فيه كل أمراض وأزمات الشعوب المقهورة، وعلى رأسها بالطبع الشعب العراقي. ومن هنا فإن كثيراً من المراقبين أظهروا قلقاً حيال هذا التوجه "الطائر" الى بغداد، خشية أن يشجع النظام العراقي على القراءة الخاطئة، فيحسب انه لا يزال قادراً على مواجهة المجتمع الدولي، وأنه لا يزال يملك إمكان الاستمرار في قهر المواطن العراقي المسكين، وتضليله بالشعارات الخيالية الجوفاء التي تفصله عن الواقع، وتضعه في عداء دائم مع الأسرة الدولية. ومن ثم فإن هذه الطائرات - في تقديرنا - سوف تثمر نتائج تخالف الأهداف التي يعلنها مسيّرو هذه الرحلات، فهي من ناحية تفتقر الى شروط الاستمرارية، ومن ناحية أخرى تزيد من احباط الشعب العراقي الذي لن يستفيد منها بقدر ما سيستفيد منها النظام نفسه بتوهمه ان هناك من يقف الى جانبه ويبارك تعنته تجاه القرارات الدولية، لدرجة انه عاد يمارس استهتاره مجدداً، من خلال وسائل اعلامه التي بدأت تبشر ب"الزحف الجديد"! على الاخوة من أصحاب "النوايا الخيرة" ان يقرأوا الأمور قراءة صحيحة، دون زيادة أو مزايدة، ودون تهوين أو نقصان. فأولاً الوقوف مع النظام العراقي هو وقوف، في المحصلة النهائية، ضد المصالح الحقيقية للشعب العراقي في المدى الطويل، فالنظام العراقي الذي يتباكى على جوع العراقيين وموت أطفالهم، هو الذي قتل من العراقيين دون رحمة أو شفقة مئات الآلاف، في الشمال والوسط والجنوب. وأي متابع للوضع العراقي يعرف هذا عن يقين، وليس هناك خلاف إلا في الأرقام التي تظهر هنا أو هناك بتفاوت طفيف، ولكن تظهر أيضاً حقائق منها على سبيل المثال لا الحصر حملة الأنفال ذائعة الصيت التي قتلت في أثنائها القوة القمعية للنظام أكثر من مئتي ألف عراقي، كما ان هناك قرى أبيدت عن بكرة أبيها، وكل المتباكين على شعب العراق يعرفون ان هناك ما يزيد على ثلاثة ملايين عراقي من خيرة العقول العراقية يعيشون مشتتين في العالم، لا يسمح لهم حتى في حال الممات بأن يدفنوا في أرض العراق. حال العراق باختصار هي ديكتاتورية عمياء صرفت جهد الشعب العراقي ومثقفيه، وضحت بخيرة أبنائه في عبث لا طائل من ورائه غير الاستمرار في السلطة. فالدعوة لمناصرة هذا النظام تحت أي شعار كان وتحت أي هدف تكتيكي هي بمنزلة العودة من جديد الى علاقات عربية ميكافيلية تسعى الى الهدف بقطع النظر عن أخلاقيته، كما لا تلتفت الى سمو الوسيلة أو دنائتها، ولذا فهي علاقات يرفضها العصر، الذي يسعى الى صيانة الحريات وتحقيق الديموقراطية وابعاد الخوف عن المواطنين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً. وعلى الرغم من أن أنظمة شمولية عدة قد بارحت أماكنها في السلطة اما لتآكلها من الداخل واما لرفض المجتمع الدولي لها، واما لتضافر العاملين معاً، لا يزال النظام العراقي يراوح مكانه في الحكم، جاثماً فوق صدور العراقيين، بالقمع تارة وبالتضليل تارة أخرى وبتغيير الشعارات ثالثة، فمرة علمانية اشتراكية، ومرة شعارات اسلامية دعائية لا يطبق منها حرفاً باستثناء وضع أحد الشعارات على علم الدولة، ومع ذلك فهو يتمادى في اهمال المواطن العراقي واهدار حقوقه. ولكن العجيب هو ان هذا الاهمال يجد من يناصره ويدافع عنه ويحاول ان يمنحه براءة ذمة أمام المجتمع الدولي. لقد استطاع النظام العراقي، وعلى رأسه صدام حسين، حالياً، إعادة الخليج والجزيرة الى الأجواء نفسها التي وضع فيها المنطقة قبل اغسطس 1990. فآلته الاعلامية لا تكف عن ترديد الاتهام للكويت والسعودية، ربما بالعبارات نفسها التي رددتها حينذاك، وهي عبارات مموجة تتهم الكويت بأنها هي التي تقف حائلاً دون فك الحصار الاقتصادي عن النظام العراقي، وكأن الكويت قد صارت - فجأة - دولة عظمى تقود المجتمع الدولي وتحمل الأممالمتحدة على معاداة هذا النظام، بينما العالم كله يعرف ان الكويت دولة محبة للسلام، وانها لا تستطيع - حتى لو انها تملك - أن تقف في مواجهة المجتمع الدولي، فلماذا يجتر النظام العراقي هذا الحديث في هذا الوقت؟ ولماذا تصر آلته الاعلامية، على ترديد هذه الاتهامات؟ وهل يعيد النظام سيرته الأولى لينفث عدوانه ضد الكويت والسعودية مرة أخرى؟ فلتذهب الطائرات العربية الى بغداد، ليست هنا المشكلة، شريطة ان تحمل رسالة من شقين: "ان الشعوب المقهورة لن تظل مكبلة طوال الوقت"، و"أن زمن المغامرات قد ولى". فلتذهب الطائرات إذن، حاملة على أجنحتها شعاراً كبيراً: "نعم للسلام... ولا كبيرة للبطش والعدوان". * كاتب كويتي