في بلاغة الدم ما يحيل الى كراهية الكلام، خصوصاً في مواقف يكون السيف فيها أصدق إنباء من الكتب. ولا سيف في يدينا ليفصد ما في الخرافة من دم فاسد، بل دم يُكذّب كتب الخرافة ويكسر سيفها. دم يقطع الطريق على قبيلة تحوّل التاريخ الى نوع من التدبير المنزلي: تؤلف شعباً هنا، وتشطب شعباً هناك، تُقوّل حجراً ما ترى فيه كلاماً كان ينبغي أن يكون كلامه قبل ألفي عام، وتحكم على كلام يضج به المكان بضرورة الصمت الصريح. تصنع جنّة للمنفيين، ومنفى للمجانين. نطرد ونطارد. هكذا تقول القبيلة. لكنها تتصرف كالمطرود، وتشكو كلما لاح خيالنا من خطر المطاردة. ففي دمنا ما يهدد اقتراحها علينا بنهاية محتملة للتاريخ. وفي عفوية وجودنا ما يجعل الشبح الواقف على الحواجز خلف فولاذ الخرافة مجرد تنويع لما يمتاز به المكان من طاقة على السخرية. لم نفكر بمعنى اللحظة التاريخية العابرة، بل قادنا كلامهم على أبدية وجودهم الى العثور فيه على عُصاب الخوف من اللحظة العابرة. فنحن هنا ومن هنا. جاءت شعوب وذهبت شعوب، جاءت جيوش وذهبت جيوش، تغيّرت ألوان عيوننا قليلاً، تغيّرت جلودنا قليلاً، ولم نذهب. لم نفكر بدور القوة في صنع التاريخ، بل قادنا حرصهم عليها الى الارتياب في حقيقة امتلاكهم لها. فنحن هنا ومن هنا. حكمنا ما لا يحصى من الفاتحين، لم نتمكن من صد أحد، ولم نُلحق هزيمة ساحقة بأحد. لكن فينا ما يهزم غيرنا. لأننا هنا ومن هنا. لم نهبط بالمظلات من سماء الخرافة، ولا تكاثرنا في معسكرات الفاتحين، بل عشنا وتكاثرنا كما يفعل الماعز في أعالي الجبال، وكما يفعل النبات مع دورة الفصول. نشعر بالهزائم من دون إحساس بالمهانة التاريخية، وليس في انتصارنا ما يشي برغبة في الثأر من الماضي، أو التنكيل بأحد. لسنا قبيلة، وغالباً ما نعاني ضعف الذاكرة، وفشلاً ذريعاً في تحويل التاريخ الى فلسفة مكتوبة، لكننا من النماذج الجيدة لدور الذاكرة الفطرية في تمكين الجماعة من البقاء،. ومن النماذج الجيدة لفض الاشتباك بين الجماعة وتاريخها. فليس فيه ما يحرضنا عليه، وليس فينا ما يبرر لنا تفصيله على مقاسنا. فنحن واحد متعدد. وعديد لا ينقسم. طردونا وطاردونا، ولا نشعر بالخروج من التاريخ، أو بالهزيمة النهائية، فكلما لاحت نائبة من النوائب نقول المرة المقبلة خير. ننتظر خير المرة المقبلة، فتأتي المرة المقبلة بمزيد من النوائب، ونقول المرة المقبلة خير. كأن المرة المقبلة كلام قلوبنا، أبجدية اسمنا، وعلامتنا الفارقة في التاريخ. لمن يريد العثور على علامة المرة المقبلة أن يتأمل وداع أمهات قرويات لأولاد هربوا من البيت، على رغم إرادة العائلة، وسقطوا شهداء. فجأة، وسط تلك اللوعة التي لا تعرفها سوى الأمهات، اللوعة التي لا نستطيع تحويلها الى كلام، تستخرج الأم الثكلى من مكان سحيق في آخر قلبها عبارة، ترميها على الجسد المسجى، تقول: فداء لك يا فلسطين. ربما شتمت فلسطين أول النهار، عندما خرج الولد من البيت، لكنها في لحظة الفاجعة الكبرى، تكتشف تلك الصلة المعقدة بين بطنها واهب الحياة، وحياة بلاد تأكل أولادها، فتقدم قربانها كي لا يذهب الولد هباء. تقدم القربان كما فعلت أمهات على مر العصور في هذا المكان المعلّق بين الأرض والسماء. لا شيء يذهب هباء. نحن هنا ومن هنا، لأننا هنا ومن هنا. فالناس لا يختارون أوطانهم، بل تختارهم الأوطان بطريقة تحوّل الصدف البيولوجية الى نعمة من نعم السماء. لا نكف عن التذمر أو الشكوى. لا نتورع عن الرحيل، أو التفكير في مغادرة البلد الى الأبد. لكن الأبد طويل، وفي مشهد أم قروية تودّع ابنها ما يحوّلنا الى أبناء لها ولشعبها، وإلى آباء لأولاد نتمنى أن تكون لهم أمهات مثلها. لا أحد ينجو من مصيره، ولا أحد يعيش خارج زمنه. وقد شاءت لنا الأقدار أن نقطع الطريق على قبيلة تريد الثأر من التاريخ، وتحويلنا الى علامة إيضاح على كفاية الانتقام. شاءت لنا الأقدار أن نعترض طريق الخرافة، كما فعل آباؤنا وأجدادنا منذ مئة عام. سنسقط وننهض، ونسقط وننهض، ونسقط وننهض حتى تسقط الخرافة وننهض. لأننا هنا ومن هنا. ذلك ما يقوله مشهد أولاد يجابهون فولاذ الخرافة بقبضات مؤمنة ودم فصيح، من الناصرة الى رفح، ومن أعالي الجليل الى حجر يحلّق في سماء الخليل.