توصل ممثلو الشعب الصومالي، عبر مؤتمر جيبوتي للمصالحة، إلى اختيار البرلمان الموقت، وانتخاب عبدالقاسم صلاد رئيساً للجمهورية، وبقدر ما يشكل ذلك استعادة لركيزتين أساسيتين في كيان الدولة الصومالية، فإنه يمثل ايضاً بعثاً جديداً للشرعية الصومالية الغائبة منذ ما يزيد على عشر سنوات. وعلى رغم ترحيب الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة بهذه الشرعية، فإنه لا يزال أمامها الكثير من التحديات لكي تصير سلطة حاكمة فعلاً تنفذ القانون والنظام وتسيطر على الأوضاع في ربوع البلاد كافة. ويجدر التأكيد أن المنظور العشائري الشامل لا يزال يتمتع بأهمية كبرى، فيعود الفضل اليه في تحقيق المصالحة الصومالية أخيراً، وسيكون هو نفسه نقطة الانطلاق لاستعادة الوحدة والاستقرار، كما أنه سيكون عماد أي تصور لأية حكومة فاعلة تجعل الجميع يشعرون بالانتماء إلى الوطن، من طريق التوزيع العادل للسلطة، لذا ينبغي الحرص البالغ على التمثيل النزيه والعادل لجميع العشائر في كل أجهزة الدولة التي يجري إنشاؤها الآن. وفي هذا الإطار فإن التحدي الأول على الصعيد الداخلي يتمثل في جانبين: أولهما يتجه إلى ضرورة إنجاز عملية المصالحة في مقديشو وما حولها، وتهيئتها سياسياً كعاصمة للدولة الصومالية. وذلك يتطلب إجراء حوار مع قيادات الفصائل المعارضة في المدينة عيديد، عاتو، صودي، حسن بود على أساس قاعدة تقاسم السلطة وضمان مشاركتهم في تكوين أجهزة إدارة العاصمة، بما في ذلك قوات الشرطة والجيش. وذلك يتطلب أيضاً وضع القواعد والآليات التي تمكن من أن تصبح العاصمة لكل القبائل والعشائر وليس لقبيلة الهوية فقط، لن يتأتى ذلك إلا بالشروع برد الممتلكات التي نهبتها قبيلة الهوية بفروعها المختلفة إلى أصحابها القبائل الأخرى، والجانب الثاني ينصرف إلى عملية جمع سلاح الميليشيات، وتدريبها وتأهيلها في تكوين قوى الشرطة والجيش، والمبادرة بحل ميليشيات المحاكم الاسلامية، لتكون نواة قوة الشرطة، وهي الميليشيات التي أعلنت تأييدها وارتباطها بالرئيس الصومالي المنتخب ووفرت له الحماية عند عودته إلى مقديشو، ما جعل البعض يتحدث عن التوجهات الإسلامية المتشددة للرئيس عبدالقاسم صلاد، فالمبادرة بحل هذه الميليشيات بقدر ما يشجع باقي الفصائل على الانضمام إلى قوى الشرطة والجيش، فإنه سوف يطمئن أيضاً دول الجوار والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه التوجهات الحقيقية للرئيس الجديد. ويرتبط هذا الأمر بالسعي الحثيث من أجل استعادة النظام القضائي المدني والقانوني الصومالي من دون الدخول في معارك سياسية أو عسكرية مع قوى المحاكم الاسلامية، فهي محاكم عرفية ملأت الفراغ القانوني والقضائي الناشئ عن غياب مؤسسات الدولة واعتمدت المذهب الشافعي في إصدار أحكامها ما يجعلها بعيدة في مرجعيتها عن مصادر التطرف في الفقه الاسلامي. أما التحدي الثاني فيتمثل في انضمام "بونت لاند" و"صومالي لاند" الى الشرعية الصومالية، فلم تطرح وثائق إنشاء "بونت لاند" في الشمال الشرقي للصومال الانفصال عن الدولة الصومالية المقبلة، بل أكدت مراراً الوحدة الصومالية. وهذا التأكيد يجعل الحوار المرتقب بين الشرعية الصومالية الجديدة وإدارة "بونت لاند" أسهل كثيراً من الحوار المستقبلي مع "صومالي لاند"، وفي الحالين ينبغي التأكيد على ضرورة أن ينطلق الحوار من أهمية استمرار الأمن والاستقرار في كل من "صومالي لاند" و"بونت لاند". ويمكن القول إن انضمام "بونت لاند" الى الشرعية الصومالية إلى جانب الفصائل المسلحة في العاصمة مقديشو يمثل تمثلاً للسلطة الفعلية في جنوبالصومال، ومن شأن ذلك إذا تحقق أن يسهل كثيراً عملية الحوار مع "صومالي لاند" التي طالما أعلنت استعدادها للدخول في حوار مع سلطة الجنوب على أسس من العدل والمساواة، شريطة أن يتمتع طرفا الحوار بذهن مفتوح إزاء دولة الوحدة الصومالية المقبلة. فأي بعث واقعي لهذه الوحدة قد ينطوي على التفاوض من جديد على كل رموز ومؤسسات وهياكل وطبيعة الوحدة في الدولة المقبلة، وعلى الصعيد الإقليمي تشكل أول زيارة خارجية للرئيس الصومالي المنتخب علامة بارزة على صعيد صياغة علاقات وثيقة مع المنطقة العربية، غير أن التحدي الرئيسي إقليمياً يتمثل في التعامل مع دول الجوار الإقليمي للصومال. فاهتمام دول الجوار وبخاصة أثيوبياًوكينيا بالأزمة الصومالية يعود إلى أسباب عدة تكمن أساساً في محاصرة انتقال عوامل الأزمة إلى بعض أقاليمها التي تعيش نسبياً ظروف الصومال نفسها، وضمان عدم طرح موضوع "الاوغادين" الصومالي الذي تسيطر عليه أثيوبيا وإقليم NFD الصومالي الذي تسيطر عليه كينيا، إضافة إلى تأكيد الدور الإقليمي لهما في ظل احتمال تنامي الدورين السوداني والإريتري، ومحاولة استيعاب الدور العربي والإسلامي في حل الأزمة. وعلى رغم ذلك فإن تجاهل المخاوف الأثيوبية والكينية في سياق تثبيت الشرعية الصومالية يظل أمراً غير واقعي، إذ سرعان ما يصطدم مثل هذا السعي بالمحاولات الأثيوبية والكينية الرامية إلى تحقيق مصالحهما الأمنية، فأخذ هذه المصالح في الاعتبار الحيلولة دون انتقال نشاط جماعات الإسلامي السياسي وبخاصة حزب الاتحاد إلى أراضيهما، وانتهاج سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وايجاد المصالح المشتركة في إطار من الحرص على تحقيق الاستقرار في المنطقة باعتباره هدفاً مشتركاً. في ظني أن انتهاج مثل هذه السياسات من شأنه أن يصوغ طبيعة العلاقات في منطقة القرن الافريقي على أسس جديدة طالما افتقدتها خلال فترة الحرب الباردة. ربما يرى البعض في أن الصراع الاثيوبي - الاريتري كانت له آثار إيجابية في انطلاق المبادرة الجيبوتية وفي توصلها إلى النتائج المرجوة، غير أن تداعيات هذا الصراع لا تزال مستمرة، وبات من المصلحة الصومالية تجنب الدخول في أتون هذا الصراع والعمل على تخفيف حدة التوتر في المنطقة. وعلى الصعيد الدولي بادر الرئيس الصومالي المنتخب بالمشاركة في قمة الألفية في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول سبتمبر المنصرم، وقدَّم خطاباً متوازناً ومسؤولاً احتوى اعتذاراً من رمز الدولة الصومالية على ما تعرض له جنود الأممالمتحدة في الصومال عامي 1992 و1993. غير أن هذا الاعتذار يهدف في المقابل إلى أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته تجاه الشعب الصومالي في مساعدته وتمكينه من إعادة إعمار وبناء بلاده. وبات من الضروري أن تعمد المنظمة الدولية إلى عقد مؤتمر دولي لتنسيق المعونات الدولية. قرر مجلس وزراء خارجية الدول العربية الشهر الماضي الإسراع في تقديم مختلف أشكال الدعم للرئيس الصومالي، وحكومته الانتقالية المقبلة، ومساعدتها على تحقيق المصالحة الشاملة والوحدة الوطنية، وتمكينها من إعادة بناء الصومال، كما قرر تقديم المساعدات الفورية اللازمة لاستيعاب قوى الميليشيات في الحياة المدنية وإعادة تأهيلهم وتكوينهم في إطار الجيش النظامي الصومالي. على رغم حرص الأمين العام للجامعة العربية على وضع الأمة العربية أمام مسؤولياتها التاريخية نحو مساعدة الصومال، إلا أن محصلة أداء النظام العربي تجاه الأزمة الصومالية كشف عن اتساع الفجوة بين اتخاذ القرار وتنفيذه عملياً. فقد أصدر مجلس الجامعة قرارات عدة في شأن الصومال، غير أن حصاد تنفيذ هذه القرارات كان هزيلاً، ولا يقرى إلى تطلعات الشعب الصومالي آماله. إن رأب الصدع يحتاج إلى مساعدة مكثفة سياسية ومالية وتنموية من الدول العربية لتفعيل مقررات مؤتمر المصالحة، وتنفيذها، ودعم الشرعية الصومالية. كما أن هذا التحرك يظل واجباً قومياً لتأمين المصالح العربية العليا في منطقة القرن الإفريقي، ولن يتأتى ذلك إلا باحتضان الشرعية الصومالية الوليدة والإسراع في تقديم العون لها، وتمكينها من مواصلة مسيرة الوفاق الوطني، ونشر الأمن والاستقرار، وتحقيق وحدة الصومال وسلامته الإقليمية. ذلك أن التراخي في تقديم هذا الدعم على نحو عاجل ربما يحول دون انتقال هذه الشرعية الوليدة. * كاتب مصري.