"الموقف العربي" الأخير، ليس عفوياً، ولا يشير الى محاولة منع المزيد من الدماء التي سالت في فلسطين، بقدر ما يشير الى عوامل وأسباب أكبر. إنها تلك التي تنبي على ما يمكن تسميته ب"الوضعية الاسرائيلية في السيكولوجية العربية"، والتي جاءت انتفاضة الأقصى لتغيرها، ولتقدم الفرصة لكسر "النموذج الاسبارطي" الاسرائيلي، ولكن. ... لدى العرب عموماً، بمن فيهم كثير من المسؤولين في الحكومات، صورة محددة عن اسرائيل. واسرائيل التي يفكرون فيها أو يتحدثون عنها، أو ربما يتحدثون إليها ويتفاوضون معها، هي اسرائيل تلك الصورة. ولا داعي للدخول في كثير من التفصيلات. ويكفي القول، إن اسرائيل هذه، حققت لنفسها، عليهم انتصار العام 1967. فمثلاً، عندما تفاوضوا مع اسرائيل عامي 1978 و1979، فإنما كانوا يتفاوضون مع اسرائيل العام 1967 لا مع اسرائيل العام 1973. واسرائيل التي قد تتحسب دولة عربية العام 2000، عندما تسمع تهديدات منها، هي أيضاً اسرائيل العام 1967 او ما يقاربها. فتلك ال"اسرائيل" طبعت نفسها في الذهن العربي، الرسمي على الأقل، بخطوط مكثفة. وذلك أمر طبيعي ومفهوم، وظاهرة يعرفها علم النفس معرفة جيدة. بيد أن الواقع، الذي لا مراء فيه، أنه مسَّ اسرائيل ومجتمعها تغير هائل منذ العام 1967، بل إن الفارق ما بين اسرائيل العام 1967 واسرائيل العام 2000، أكبر من الفارق ما بين الاتحاد السوفياتي العام 1980 والعام 1990. إلا أن مفارقة الصورة في حال الاتحاد السوفياتي اتضحت، وأصبحت ماثلة للعيان، ولا تحتاج الى غوص واستكشاف واستخلاص، بينما لم تطف بعد صورة اسرائيل الجيدة إلى سطح الوضوح والمشاهدة، لكن، لن يمضي وقت طويل حتى تطفو، على رغم كل جهود الإخفاء والتمويه والتضليل التي تبذلها، هي ومناصروها. ولئن جئنا بهذه المقارنة، فلأن ثمة سبباً مهماً يستدعيها، إنه وجود أوجه شبه كثيرة في الطبيعة المجتمعية لكل من المجتمعين الاسرائيلي والسوفياتي، فكلاهما مثلاً، مجتمع عقائدي - هذا شيوعي وذاك صهيوني - يعتمد "العقيدة المغلقة" محوراً لتكوين الأهداف وحفز القوى، وكلاهما مثلاً آخر، يؤمن بالحرب وسيلة وغاية. ويمكن المضي طويلاً في تعداد أوجه الشبه، التي يكفي أن نلخصها بأنها مبنية على النموذج الاسبارطي، ولئن استطاعت اسبارطة - المدينة الأصغر حجماً في عالم الأغريق القديم - أن تقوم بالعجائب في ميادين القتال، من حيث أنها أوقفت جيوش الفرس الجرارة في مضيق ثيرموبيلي بقوة من ثلاثمئة جندي اسبارطي فحسب، لمدة كانت كافية لإعطاء مدن اليونان فرصة لتعبئة قواها ضد هذا الغزو، وبحيث أنها هزت أثينا أكبر المدن اليونانية في حرب "البيليبونز" وقضت على أمجادها، فإنها، نفسها، لاقت الهزيمة على يد مدينة صغيرة مغمورة هي كورنثيا، عندما أدرك ملكها مدى ما حصل في داخل الذات الاسبارطية من تآكل وانتهت عند ذاك أسطورتها. ويكفي مؤشراً خارجياً للتغير الذي نتحدث عنه، أن نقارن ما بين إسرائيل المتحاربة مع البلدان العربية على جبهات متعددة في وقت واحد، في حربي العام 1967، والعام 1973، وإسرائيل العاجزة أمام تحالف المقاومة الفلسطينيةواللبنانية، أثناء اجتياح لبنان العام 1982، وفي أعقابه، قوات اسرائيل البرية - كلها - مركزة في جبهة واحدة، صغيرة، ومحررة حتى من التخوف والخشية من قيام جبهة ثانية، بعد أن أمنت معاهدة الصلح مع مصر حدودها الجنوبية، ومن فوق تلك القوات البرية القوات الجوية كلها، وفي جانبها القوات البحرية كلها - كلها - على مدى شهرين من الزمن، لم تتقدم فيهما داخل بيروت إلا بضع عشرات من الأمتار، رُدَّت بعدها في هجوم معاكس. أين هذه من إسرائيل العام 1967، التي حاربت على ثلاث جبهات، في وقت واحد، جيوشاً ذات مئات الآلاف من الجنود، وآلاف من الدبابات، ومئات من الطائرات، وهزمتها - عسكرياً - في ستة أيام. ومن العجب أنه ما من عربي أجرى المقارنة، أو استخلص معنى أو نتيجة أو عبرة ؟!. ولا بد، إذاً، من اجرائها الآن لئلا يتوهم العرب أن تلك القوة التي تحولت إلى "فزاعة حقل"، هي قوة حقيقية، تستطيع أن تدير المفاوضات لمصلحتها. إذ، كيف تكون هذه القوة "فزَّاعة"، في الوقت الذي لم تستطع فيه إلا الخروج من الجنوباللبناني أمام صمود "المقاومة" هناك.. في الوقت الذي لم تستطع فيه القضاء على الغضب الفلسطيني المسلح بالحجارة أمام الدبابات والطائرات الحربية الإسرائيلية. وبعيداً عن المقارنة، فإن الواجب ذكره هنا، هو أن ثمة نقطة مهمة في السيكولوجية المجتمعية الإسرائيلية لا بد من استيعابها لفهم التراخي الحاصل في الوضعية الإسرائيلية.. ذلك أن العقيدة الصهيونية القتالية - كمثيلتها الاسبارطية القديمة - كانت مبنية على مبدأ "يجب أن نربح المعارك كلها، فإذا خسرنا معركة واحدة فقد انتهينا؟ وهي عقيدة وضعت لتعظيم الحافز القتالي في كل معركة، وتظل ايجابية التأثير ما دامت ناجحة في إحداث الأثر الذي تتوخاه. لكن اذا حصلت هزيمة واحدة ما، فإن الأثر المعاكس يصبح رهيباً، لأنه مبني على أن مجرد هزيمة واحدة كافية لخسارة الحرب، أو الحروب، كلها. ولقد كانت تلك الهزيمة ما حصل العام 1973. فأطلق على هذه الحرب اسم "الزلزال". وهكذا، خلخل ذلك الانتصار معنويات اسرائيل، خصوصاً بعد أن ضاعفتها وضخمتها عقيدة "الهزيمة الواحدة هي النهاية". والحق، أن عملية التخبط الاسرائيلية، التي ربما ظهرت أول بقعها بعد العام 1973 كما تبين في ارتباك الهجوم الاسرائيلي على جنوبلبنان العام 1982، أصبحت لطمة بارزة بعد العام 1982، تحاول اسرائيل - والولايات المتحدة. اخفاءها بالطرق والوسائل كافة، ولعل هذا ما يفسر بعضاً من أسباب التعمد من جانب إسرائيل في إظهار التشدد والتهديد بالحرب، بل لعله ما يفسر لماذا نقل التلفزيون الاسرائيلي وقائع قصف بعض المنشآت الفلسطينية. * كاتب مصري.