سادت أحياء باريس اليهودية في عيد "يوم الغفران" 9 تشرين الأول/ اكتوبر الجاري أجواء توتر جعلتها تبدو أشبه بالأحياء المطوقة بمناطق فلسطينية ومهددة بهجمات مباشرة. فجميع المتاجر اغلقت أبوابها بسبب العيد، وخلت الشوارع تقريباً من المارة، وسط انتشار كثيف لقوات الأمن الفرنسية، خصوصاً في محيط أماكن العبادة اليهودية. هذه الأجواء لم تنجم عن أي تهديد وجه الى يهود فرنسا، ولم يصدر عن ممثلي الجالية العربية أي تصريح أو موقف يستهدفهم، لا بل ان حالات القلق سادت أوساط العرب منذ بدء الأحداث في المناطق الفلسطينية. وباستثناء عبارة "الموت لليهود" التي رددها البعض، خلال التظاهرة التي شهدتها باريس 7 تشرين الأول للمطالبة بوقف المجازر التي تستهدف الشعب الفلسطيني، لم يسجل أي عمل استفزازي من شأنه أن يبرر قلق الوسط اليهودي في فرنسا. فمسؤولي الجالية اليهودية الفرنسية، قرروا إرهاب انفسهم بأنفسهم وإشاعة اجواء من الاضطهاد المفتعل من حولهم، تداركاً لموجة التعاطف الشاملة التي نجمت عن صور الاغتيال المباشر للطفل الفلسطيني محمد الدرة، ورداً على الشعور بالاستفزاز الذي تولد لديهم من جراء مواقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك. ووسط التأثر العام الذي أثاره مقتل محمد الدرة، سارع رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية هنري هادجنبرغ، للإدلاء بتصريح مفاده أن الفلسطينيين يقومون بعملية تضليل متعمدة عبر استخدامهم للأطفال بهدف تشويه صورة إسرائيل. وارتفعت في الإطار نفسه أصواتاً يهودية اخرى تدعو للتضامن و"الالتصاق" بإسرائيل، نظراً للتهديد الذي يستهدف وجودها. ثم جاء التصريح الذي أدلى به شيراك وأكد خلاله أنه "لا يمكن مواجهة مشاعر شعب بواسطة دبابات"، وعكس موقفاً فرنسياً مفاده أن حل المشكلة الفلسطينية غير ممكن بالقوة العسكرية، وإنما بالعودة الى مفاوضات السلام ودفعها للتوصل الى اتفاق، ليصعّد من وتيرة استياء المنظمات اليهودية. ومن وجهة نظرها، لا يكفي إسرائيل الصور والتحقيقات اليومية التي تتناقلها وسائل الإعلام الفرنسية عن قمعها الشرس للفلسطينيين فها أن الرئيس الفرنسي يبادر بدوره للدفاع عنهم، وينحاز لمصلحتهم. ولمزيد من التأكيد لهذا الانطباع، جاءت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك ومستشاره داني ياتوم، لتحمل شيراك مسؤولية فشل المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي جرت في باريس برعاية وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت، ولتتهمه بتشجيع الفلسطينيين على الإرهاب. فوجدت المنظمات اليهودية نفسها في موقع المعزول والمغبون من جراء ما اعتبرته أنه تجاهل من قبل رئيس الجمهورية لمواقفها ومشاعرها. وعلى رغم ما تعرض له من نقد وتهجم، وافق شيراك على استقبال ممثلي المنظمات اليهودية، سعياً لتهدئة الأوضاع، ولطمأنتها الى أن كل ما تسعى إليه فرنسا مستوحى من ضرورة العمل الدائم على التوصل الى السلام. لكن هذا المسعى التوضيحي، لم يبدد ريبة هذه المنظمات حيال سياسة شيراك في الشرق الأوسط، ولم يحل دون استهدافه، عبر شعارات متعددة رفعت خلال تظاهرة التأييد لإسرائيل 10 تشرين الأول، بينما المنظمات اليهودية مستمرة في نهج التوتير المفتعل الذي تعتمده، وفي استثارة عداء غير قائم حيالها، على الأقل في الوقت الجاري. ولحسن الحظ أن الصحف الفرنسية، لم تبد أي تجاوب أو تبني لمواقف المنظمات اليهودية، فأوردت مواقف وتصريحات مسؤوليها بحياد تام، في حين ركزت في افتتاحياتها وتعليقاتها، على أهمية معاودة مفاوضات السلام، بدلاً من الاستمرار في القمع. فصحيفة "لو فيغارو" رأت أن الغضب الذي أثارته زيارة الوزير السابق ارييل شارون لباحة المسجد الأقصى، تجد ما يغذيها عبر "القمع الوحشي". الصدى نفسه رددته صحيفة "ليبراسيون" التي قالت إن "الوحشية الفائقة التي يتسم بها الرد الإسرائيلي"، و"تفوق القدرة العسكرية الإسرائيلية على القوى الفلسطينية". لا تسمح لباراك بتحميل عرفات مسؤولية ما يجري. وتساءلت الصحيفة عما إذا كان ممكناً، إذا ما توقفت أعمال العنف ان يجري الحديث مجدداً عن السلام. وانفردت صحيفة "لوموند" التي تخوض منذ مدة حملة على الرئيس الفرنسي مدفوعة بحسابات سياسية داخلية، بشجب موقف شيراك من أحداث المناطق الفلسطينية، معتبرة أنه ارتكب خطأ مماثلاً للخطأ الذي ارتكبه رئيس الحكومة الفرنسي ليونيل جوسبان عندما وصف "حزب الله" بالإرهابي.