توجد حاجة ماسة للأطراف السورية والاسرائيلية واللبنانيةوالفلسطينية للتدقيق في العمق الداخلي لكل منها. كما توجد حاجة ملحة للولايات المتحدة وأوروبا وروسيا للعمل على البعد الاقليمي لمسيرة مفاوضات السلام بعناصرها الايرانية والعراقية، وكذلك بمقوماته التطبيعية والتسليحية والأمنية والاستراتيجية. إذ بلغت الأمور الآن مرحلة الحسم ولم تعد عملية السلام في حد ذاتها مظلة السياسات للمنطقة أو في المنطقة. مضى عقد تقريباً على "العملية" التي تطورت من اختراق بسيكولوجي الى حال تخدير، الى تورط في التزام، الى انتماء لمؤسسة، الى مجرد اداة لإدارة الأزمات. واليوم، انها على مفترق حاسم، فإما ان تنتهي بإنجازات تاريخية، أو تنتهي من دون شيء، شأنها شأن غيرها من أنصاف الأوهام. والجميع على المحك، قيادات وأحزاب ورأياً عاماً بشقيه النخبوي والشعبي. لبنانياً أولاً، فربما لأن لبنان أوضح الحلقات الأكثر تعقيداً. حان الوقت لإدراك واعتراف من جانب اللبنانيين بأن أمامهم مرحلة مصيرية وعليهم التخرج من معادلات لوم الآخرين أو الاتكال عليهم الى التمعن في الخيارات التي تنتظرهم. بمنتهى البساطة والتبسيط، بحلول تموز يوليو المقبل، ينوي رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك سحب قواته من لبنان، اما انفرادياً أو عبر اتفاق مع سورية ولبنان. وعلى لبنان، حكومة ونخبة واحزاباً وشعباً، ان يستعد لأي من السيناريوات الرئيسية. فإذا فشلت المفاوضات الاسرائيلية مع سورية وقررت اسرائيل تطبيق القرارين 425 و426 لتنفيذ انسحابها من لبنان، فليس منطقياً ولا شرعياً ولا ضميرياً ان يتصرف لبنان وكأنه يرفض أو يتحدى أو يعرقل أو يقاوم خلاصه من احتلال. وحتى لو تخوف من البعدين السوري والايراني، جدلاً، فليس من المعقول ان يدفن لبنان رأسه في الرمال ويتظاهر كأن الانسحاب الاسرائيلي الانفرادي لن يتم أو ان يتصرف كأن لا علاقة له بمثل هذا الانسحاب اذا حصل. وبالتالي على اللبنانيين، نخبة وشعباً، ان يطالبوا الحكومة بالكف عن نمط الاتكالية ورفع العتب عن نفسها مختبئة وراء ظروف ثنائية أو اقليمية أو دولية. انها الوقائع السياسية التي تتطلب التوقف عن المهزلة السياسية التي يتسلى بها اللبنانيون حيناً باسم "التلازم" وحيناً باسم رفض "التوطين"، وكلاهما لا علاقة له حقاً بالتحدي الأول وهو هوية لبنان كبلد يدعي الحق بالاستقلال والاستقلالية. بعض الوعي في محله. بعض الواقعية. بعض المسؤولية. ان الحكومات المتتالية في لبنان تصرفت بتبعية من دون ان تكلف نفسها حتى التفكير بما قد يجد عليها نتيجة حسابات الآخرين، وبما عليها القيام به لو جاءت السياسات بمثل هذه المستجدات. انها تسمي حكومات وتكتفي بالتسمية. وهذا ما لن يكون في وسعها المضي فيه اذا افرزت التطورات غير التمنيات المبطنة. وحتى إذا اسفرت المفاوضات السورية - الاسرائيلية عن تفعيل للمسار اللبناني من المفاوضات وانتهت الى اتفاقات سلام سورية ولبنانية مع اسرائيل، فإن اللبنانيين، حكومة وشعباً، ليسوا في وارد استحقاقات ذلك السلام. قد يكونون في ذلك الوارد اسرائيلياً، انما ليس سورياً. فالعلاقة التهادنية اللبنانية - السورية، القائمة اليوم، لم تتطور الى بحث معمق في نوعية العلاقة ببعد السلام. هناك تحايل على الواقع والعاطفة، وهناك كثير من الالتفاف. هناك محاولة تطبيق للشخصية اللبنانية "الفولكلورية" الحديثة المبنية على "التفنيص" و"التشبيح" و"التظبيط" وكلها تعني النفاق والفساد والتظاهر بالتفاعل. والشخصية السورية، من جهتها، مليئة بالقدر ذاته من السوء، فهي مصطنعة في تعاليها، مليئة بعقدة النقص في مساواتها، مهيمنة ومتسلطة غير قادرة على كسب المودة والارتياح لها. فهي بذلك "سوفياتية" العصر فاشلة في الترغيب وفي اكتساب الثقة. كلاهما في حاجة ماسة لإعادة النظر في حتمية علاقة طويلة بعيدة الأمد في حال التوصل الى سلام مع اسرائيل. ولا بأس أبداً بعلاقة تفاعل سوري - لبنان تشكل نقلة نوعية قائمة على الاعتراف المتبادل بجدوى الطرف الآخر في زمن السلام. وهذا يتطلب اجتهاداً على المستوى الشعبي، لكنه يتطلب إلحاحاً أكثر ومساهمة من تلك الطبقة التي تسمي نفسها نخبوية. أما القيادات، فعليها ان تتوقف عن كثير من تقاليدها وكذلك محاولات تطويرها البائسة. ففي لبنان، على المؤسسات الحكومية ان تشجع دراسات في شأن الوضع اللبناني كونه عمقاً استراتيجياً لسورية بمباركة اميركية واسرائيلية، ولسنوات عديدة، ومعنى ذلك عملياً داخل لبنان وفي العلاقة السورية - اللبنانية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي سورية، حان وقت استدراك افرازات الأساليب التقليدية، أكانت في الاعلام أو في التجارة أو في تطوير المجتمع. فإذا كان القرار السوري الالتحاق بركب عالم اليوم، فإن ما يسمى مثلاً ب"ترشيد" الانترنت ليس سوى محاولة التفاف. فإما ان تقرر دمشق القفز الى مستلزمات العصر كاملة، أو تبقى سلطوية في توجهاتها حتى عند الانفتاح. لهذا القرار علاقة بعملية السلام ليست ذات بعد اسرائيلي وانما ذات بعد اميركي أولاً. وما يسأله الاميركيون عند الحديث عن احتمالات نجاح أو فشل الجولة الراهنة من عملية السلام يصب في خانة الشخصية السورية، القيادية والحكومية في السياسة والاجتماعية. والسؤال الذي يتكرر هو هل قررت سورية قبول النمط الاميركي من السياسة والاقتصاد والايديولوجية والتوجهات؟ هل هي اوروبا الشرقية، أو انها فيدل كاسترو؟ هل هي على وشك تحقيق نقلة نوعية أو انها متمسكة متشجنة في عصبيتها ضد "الاميركية"؟ هذا المقصود في الكلام عن التدقيق في العمق الداخلي - أية سورية يريد الرئيس حافظ الأسد؟ وأي لبنان تريده التلوثية الحكومية؟ وأين دور الناس؟ والسؤال ذاته يطبق على اسرائيل، انما لأسباب وأبعاد مختلفة. فالبحث في العمق الداخلي الاسرائيلي يتطلب البحث ليس فقط في طبيعة العلاقة ضمن سلام شامل على الحدود، وانما في العلاقة داخل الداخل الاسرائيلي. وهذا يتطلب مراجعة صادقة لعلاقة الاسرائيلي مع الفلسطيني. فما يريده الاسرائيلي مع اللبناني والسوري والأردني والمصري والخليجي والعراقي والمغربي والجزائري والموريتاني وغيره، واضح. ما يريده مع الفلسطيني يبقى نقطة استفهام. فالناخب الاسرائيلي الذي جاء برئيس الحكومة السابق بنيامين نتانياهو كان يقول انه وجد نفسه غير مستعد للسلام مع العرب. ثم انتخب ايهود باراك لأن نتانياهو تمادى في رفض السلام. واليوم على الرأي العام الاسرائيلي ان يقرر اذا كان بات حقاً جاهزاً للسلام، ليس فقط على الحدود، وانما في عصبة، مع الفلسطيني داخل مجتمعه وفي ديرته المباشرة. وهذا يتطلب ذلك التدقيق في العمق الداخلي. ومثل هذا التدقيق مطلوب فلسطينياً أيضاً. كثيرون في السلطة الفلسطينية يصرّون على ان اسلوب تفاو ضهم مع اسرائيل كان الأفضل في ظل الظروف التي كانت سائدة، وكثيرون ايضاً يعتقدون ان السلطة الفلسطينية اخطأت في حق فلسطين أكثر من مرة في أكثر من مناسبة ولأكثر من سبب. معالجة هذا الافتراق في التقويم لا تتم بالاستفراد والاستقواء وعبر تكريس الفساد والاضطهاد. ان السلطة الفلسطينية مطالبة اليوم بإلحاح ان تعيد النظر في أساليبها وان تراجع اخطاءها وان تتفاهم مع العمق الفلسطيني أولاً. فقد فاتها التنبه الى ابعاد سياساتها عربياً واقليمياً، وانقاذها الوحيد ليس سوى في الداخل الفلسطيني. والاستدراك حقاً حاجة ملحة على الساحة الفلسطينية. صحيح ان البعد الاميركي في عملية السلام، سورياًوفلسطينياًولبنانياً، أمر مهم ومرغوب به عربياً. انما من الضروري ان تعي الأطراف العربية ان الأولوية يجب ان تكون للنواحي الداخلية. فالرئيس بيل كلينتون راغب وصادق وعازم ومتحمس ويحتاج لتحقيق سلام عربي - اسرائيلي، لكنه في نهاية المطاف عاجز لأنه في الاعتبارات السياسية الاميركية "بطة عرجاء"، وفي الاعتبارات السياسية الاسرائيلية "فرصة مناسبة" انما ليس "الفرصة التاريخية". بيل كلينتون سيسعى، لكنه ليس رئيساً في موقع التأثير الحاسم، ولن يتمكن من ان يجزم لأن ارتباطاته بحزبه تقيده لاعتبارات انتخابية. فإذا كان في ذهن الأطراف السورية أو الفلسطينية أو اللبنانية ان الشراكة مع كلينتون فرصة نادرة، فإن المفاجأة قد لا تكون مسرة، بل قد تكون في الرهان عليه مغامرة. هذا لا يعني الفشل وانما يعني ان العبء الحقيقي هو على الأطراف المعنية مباشرة. فلا وعد اميركياً، مثلاً، بتسليم "الوديعة" أو ضمانها على ارغام اسرائيل وارد، ولا الدعم المعنوي للفلسطينيين كاف. ان الأمر متروك عملياً الى القرار السوري - الاسرائيلي بالتعاطي مع "الوديعة" وعما إذا كان الانسحاب من الجولان سيتم الى حدود 4 حزيران يونيو 1967 بمعادلات ذات علاقة بالمياه والأمن والتطبيع والبرنامج الزمني للانسحاب. ما يجب على الاطراف العربية ان تستعد له هو الطروحات التي تتعدى المفاوضات على الجولان والجنوب اللبناني. فالمفاوضات المتعددة الأطراف على وشك ان تستأنف، وهنا يجب طرح موقف عربي متماسك يتضمن رفض مبدأ امتلاك اسرائيل الأسلحة النووية كرادع في حال السلم كما في حال الحرب. انما المواقف العربية المتفقة ليست وحدها ذات تأثير في هذه المرحلة من العملية السلمية. وهنا يمكن لسورية ان تلعب دوراً مميزاً اذا شارت ان يكون دورها مؤثراً اقليمياً يتعدى العلاقة السورية - الاسرائيلية. وهنا يدخل البعدان الايراني والعراقي. فدعم طهراندمشق الساعية الى "تحرير كامل الجولان المحتل" من خلال المفاو ضات يشكل موقفاً ذكياً ليس فقط لحرصه على العلاقة الاستراتيجية السورية - الايرانية وانما ايضاً بسبب ما ينطوي عليه من رسالة الى واشنطن مفادها الاستعداد لتحول أساسي في السياسة الايرانية من عملية السلام. وايران ليست عابرة في معادلات المسارين السوري واللبناني من المفاوضات نظراً الى تأثيرها الجذري في "حزب الله" وضرورة موافقتها على الطروحات السورية واللبنانية في شأنه. وفي استطاعة دمشق ان تلعب دور القناة المميزة بين طهرانوواشنطن في هذا المجال علماً بأن المواقف الايرانية من "عملية السلام" مهمة جداً في العلاقة الاميركية - الايرانية الثنائية. وفي ما يخص البعد العراقي فإن لسورية فسحة مميزة ايضاً على دور مؤثر اذا تمكنت من تخفيف سقف المواقف العراقية من "عملية السلام" والمواقف الاميركية من بغداد. كل هذا يتطلب من دمشق التفكير ملياً بالأبعاد الاقليمية، وهي تخوض معركة السلام مع اسرائيل، وبعض التغيير في نمط علاقاتها بأطراف المنطقة. فالأولوية يجب ان لا تكون لمعاقبة السلطة الفلسطينية على اخطائها وانما لإبراز مساوىء الطمع والاستفراد بالفلسطينيين للمفاوض الاسرائيلي. والعلاقات مع الجيدة والبيئة المباشرة لسورية تبقى الضمان الأول لدمشق بغض النظر عن التحولات في العلاقات الدولية.