قبل أسابيع، حلت الذكرى العاشرة لرحيل المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني (29 أيلول- سبتمبر- 1912/ 30 تموز- يوليو- 2007)، الذي أبصر النور مع دوي الحرب العالمية الأولى، ودرس السينما أيام فاشية موسوليني، وقضى شبابه إبان الحرب الثانية، وتابع كهلاً الاحتجاجات الشبابية في أوروبا. شريط الحروب والمآسي كله مر أمام عينيه، بالتوازي مع شريط الحداثة وتقلباتها. ويكاد يكون عمره الطويل من عمر السينما نفسها، فهو عازف الكمان الموهوب الذي تخلى عن العزف كي يدرس السينما، ويقف وراء الكاميرا. ابن طبقة ملاك الأراضي الثرية، الحائز على شهادة في الاقتصاد، الذي رأى شقاء وآلام وتظاهرات العمال والصيادين، وحاول توثيقها بصرياً في بداياته. امتلك أنطونيوني القرن العشرين كله، ثم كثفه بصرياً برهافته وحساسيته الأوروبية، عبر أكثر من ثلاثين شريطًا. وعلى رغم تأثره بالواقعية الجديدة في إيطاليا وعمله مساعداً لبعض روادها مثل روسلليني، لكنه قدم سينما مضادة، يسميها بعضهم «ما بعد الواقعية الإيطالية»، ويمكننا أن نعتبرها «الموجة الجديدة» في نسختها الإيطالية، أسوة بمثيلتها الفرنسية التي قدمها أمثال تروفو وغودار. نوع من القطيعة قطعاً يسبق أنطونيوني جيل الموجة الجديدة الفرنسية، بسنوات، لكنه مثلهم في تأثره بالواقعية الإيطالية، وفي القطيعة مع السينما الهوليوودية وحكاياتها التقليدية، وكلفتها الضخمة. وأيضاً انطلق مثلهم من الكتابة عن السينما. يُضاف إلى ذلك الغضب العارم من الحرب العالمية الثانية وتداعياتها. أما نتاجه المعتبر والمتوج بالجوائز الكبرى فقد ظهر في شكل أساسيّ، خلال عقدي الخمسينات والستينات، وهي الفترة ذاتها التي شهدت مجد الموجة الجديدة. عادة تتمركز قراءة مشاريع أنطونيوني حول مرحلتين: المرحلة الإيطالية وتختزلها رباعيته: «المغامرة» 1960، «الليل» 1961، «الخسوف» 1962، و «الصحراء الحمراء» 1964. ومعظمها من بطولة صديقته مونيكا فيتي. وبعدذاك تأتي مرحلته العالمية، عندما حقق أفلاماً ناطقة بالإنكليزية، أولها وأشهرها Blow Up إنتاج 1966 ونال عنه السعفة الذهبية في مهرجان كان، وهو من تمثيل ديفيد هيمينغز وفانيسا ريدغريف عن قصة للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار، ثم «نقطة زابرسكي» 1970، وأخيراً «المهنة صحافي» والمعروف أيضاً بعنوان «المسافر» The Passenger 1975. تلك الأفلام السبعة، تمثل خلاصة تجربة أنطونيوني. وعلى رغم تباين المرحلتين، مع اختلاف اللغة، وشروط الإنتاج، لكنها - جميعاً - تترجم أساليب ولغة أنطونيوني السينمائية، ويمكننا اختزالها في المفاتيح التالية: المؤلف/ المخرج جرب أنطونيوني النقد السينمائي وكتابة المقالات، وله تجارب في العزف والرسم. فليس غريباً أن يتبنى نظرية «سينما المؤلف» التي تعتبر المخرج مؤلف فيلمه، حيث يحمل بصمته وتوقيعه الشخصي، حتى لو لم يضع اسمه. ومن ثم شارك في معالجة وكتابة معظم أفلامه المهمة، حتى لو أخذها عن نصوص لآخرين. ومسألة المؤلف/ المخرج، تتجاوز مجرد كتابة النصوص، إلى خلق لغة بصرية ذات قواعد يبتكرها المخرج، فالصور- كما أشار بازوليني - ليست لها أبجدية مُسبقة مثل اللغة، بل تتيح لكل مخرج أن يبتكر أبجديته الخاصة، وهذا تماماً ما فعله أنطونيوني. الفرد/ المجتمع كانت الموجة الجديدة حركة تمرد ضد السلطة، والمجتمع، لمصلحة «الفرد العادي»... الذي قد لا يُعرف اسمه، والذي يعيش يومه بلا شعارات، ولا إنجازات كبرى. وبالعودة إلى شرائط مرحلة أنطونيوني الإيطالية، حيث غالباً ما تمثل هذا الفرد في بطلته المفضلة مونيكا فيتي، نتابع ضياعها، بجمالها الأشقر الحائر الذي لا يقول معنى محددًا. والأمر نفسه يستمر معنا في مرحلته العالمية سواء من خلال شخصية المصور في Blow Up أو الصحافي في «المسافر». الاغتراب/ التوافق أبطال أنطونيوني يعيشون اغتراباً نموذجياً، شخصيات ضجرة قلقة من الحروب والحداثة، وتوقعات الآخرين منهم، كما نظرّت لهم الفلسفة الوجودية، وكما قُرئ عنهم في مسرح العبث، يسيرون وحدهم في فضاءات وفراغات بصرية تحاول القبض على العدم، كأنهم لا علاقة لهم بحركة الحياة. بالكاد تُعرف أسماؤهم، وهم يمضون مسرنمين إلى قدر غامض. ففي «الخسوف» مثلاً تقطع بطلته «فيتوريا» - مونيكا فيتي - طرقاً لا نهائية جيئةً وذهاباً، وعندما تذهب إلى البورصة تقف مغتربة عما يدور حولها من صراعات حول الأسهم، وتصف هذا القطيع اللاهث بأنهم «أشبه بحيوانات في قفص». ما يعني استحالة أن تتوافق مع مجتمع مثل هذا. * الحلم/ الواقع في «تكبير الصورة» (بلو آب) أو «المسافر» مثلما في معظم نتاجه، لا يقدم أنطونيوني «محاكاة» للواقع، ولا محاولة لفك شفراته، بل يعيد تشفيره بلغة حلمية. فبطل «المسافر» «لوك» - جاك نيكلسون - ينتحل هوية شخص آخر، وينتقل بين أماكن شتى، ويتعرف الى فتاة مجهولة، تاركاً حياته المستقرة، ومنجذباً إلى مصير غامض. كما لو كان حلماً بصرياً، لا علاقة له بمحاكاة الواقع، ولا منطق السببية، ولا مكافأة أو عقاب الأبطال، بل يتعلق بالسرد الحلمي، تلك المتاهة الغامضة، التي تأخذ الحواس. التأمل/ الحبكة اتساقاً مع ما سبق، تفتقر نصوص أنطونيوني إلى الحبكة الخطية «بداية، وسط، نهاية»، فكل فيلم ينسج بناءه من داخل ذاته، مفعماً باستطرادات، حكايات صغيرة، صور فوتوغرافية غامضة، فليس غريباً أن يحتفي بالصور واللوحات التشكيلية، بل جاء بطل «تكبير الصورة» مصوراً، وفي «الخسوف» عندما تزور «فيتوريا» شقة صديقتها ترى اللوحات والصور الأفريقية. طرقات ومدن يتجول فيها أبطاله ما بين إيطاليا وإنكلترا وإسبانيا وفرنسا والمغرب. دائماً يظهرهم كجزء بسيط من فضاءات رحبة ومعقدة وكئيبة. ويضعهم في «كادرات» تدعو إلى التأمل والاكتشاف، بدلاً من اللهاث وراء الحبكة. اللقطة/ المشهد لا يخفى ولع أنطونيوني باللقطة بالغة الطول، والمشهد الممتد، والإيقاع البطيء، الذي يكاد يخلو من كلمات تقال. فالكاميرا تدور يميناً ويساراً، تراقب في حياد، وتترك للمتلقي حرية التأمل والتوقع، تقترب وتبتعد، مع تغيير زواياها، فتدخل عناصر إلى الحيز، وتغادر عناصر أخرى. ولعل أفضل نموذجين للقطة/ المشهد، ختام «المسافر» حيث تمدد جسد «لوك» بينما في البعيد حركة البشر والأشياء عبر النافذة المفتوحة. كذلك ختام «الخسوف»، وفق فوغل في كتابه السينما التدميرية - حيث تتابع 58 لقطة لمدة سبع دقائق في وتيرة مذهلة، شوارع خالية لا أحد فيها، وجوه عابرة، ظلال وأضواء، وإشارة إلى أماكن مر فيها بطلا الفيلم، مع هبوط الليل، في استعارة بصرية لخسوف الإنسان. الخلاصة أن متاهة أنطونيوني الحلمية، واغتراب أبطاله، يؤرخان لمأزق الحداثة، وتداعيات ما بعد الحرب، مثلما يؤرخان لحياته، وحيرته الروحية، وعدم الثقة بأي سلطة... وأي معنى. وأصدق ما يلخص نزعتها العدمية مقولة سيوران عندما سئل: ماذا تفعل من الصباح حتى المساء؟ أجاب ساخراً: «أتحمل عبء ذاتي»... تلك هي الإجابة النموذجية التي تنطق بها أفلام أنطونيوني على لسان أبطاله.