أبى الرئيس بوريس يلتسن ألا ينصرم القرن العشرون قبل أن يتأكد من تسجيل اسمه بين زعمائه الأفذاذ غير العاديين. وكأنما أزعجه أنه لم يرد إلا لماماً ضمن أبرز قادة القرن في الاستطلاعات التي أجريت في مناسبة انتهائه، وربما عزّ عليه ان يلقي ميخائيل غورباتشوف اهتماماً وتقديراً يفوقان ما حظى به هو. فقرر ان يفاجئ العالم، في آخر أيام العام 1999 ووسط الاحتفالات ببدء ألفية جديدة، باستقالته واعتزال العمل السياسي. وإذا شعر يلتسن بغبن على هذا النحو، فهو على حق، رغم كل أخطائه، بل خطاياه. فقد لعب في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات دوراً أصبح بمثابة علامة فارقة بين عصرين ليس فقط في بلاده، ولكن ايضاً بالنسبة الى العالم والنظام الدولي. وإذا كان غورباتشوف فتح الباب من دون ان يقصد أمام انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء النظام العالمي ثنائي القطبية، فقد كان يتلسن هو الذي قدّم أهم مساهمة في نجاح تلك العملية التاريخية عندما تصدى شخصياً للانقلاب الذي دبّره الشيوعيون ضد غورباتشوف في آب اغسطس 1991. ولا يعني ذلك ان هذا دور ايجابي أو انه خير بالضرورة. فهذا أمر موضع اختلاف ومحل تعارض في وجهات النظر. ولكن منذ متى كان الخير أو الشر معياراً في تحديد من هم الزعماء الأفذاذ الذين بدّلوا وجه التاريخ أو غيروا مساره. وهل يحضر هذا المعيار بأي مقدار حين يقع الاختيار على زعيم مثل هتلر أو ستالين؟ وأياً يكن الخلاف على تقويم الدور الذي لعبه يلتسن في تفكيك الاتحاد السوفياتي السابق ودق المسمار الأخير في نعش النظام الاشتراكي الماركسي، فالأكيد ان أشد منتقديه يرونه أقل سوءاً مقارنة بزعماء آخرين تركوا بصماتهم على أحداث القرن العشرين. وإذا أردنا وصفاً يلخص شخصية يتلسن، آخر المنسحبين من عالم الأضواء في ذلك القرن، فهو أنه سياسي مغامر بامتياز. وهذه الصفة تحديداً هي أكثر ما يميز الزعماء الأفذاذ عن غيرهم. فالمغامرون هم الذين صنعوا التارخ أو أعادوا صنعه. ولولاهم لسارت حياة الدول والمجتمعات رتيبة لا حيوية فيها ولا إثارة. أما صفته الثانية التي لا تقل أهمية فهي العناد الى غير حد. وما لم يكن السياسي عنيداً، يصير صعباً عليه أن يخوض مغامرات كبرى يركب خلالها الخطر في لحظات حاسمة. وهذا هو ما فعله يلتسن وأدخله التاريخ عندما واجه دبابات الانقلابيين الشيوعيين في آب اغسطس 1991، ولم يكن ممكناً ان يفعل ذلك من دون نزعة مغامرة لا مزيد عليها أتاحت له أن يخاطر بحياته في لحظة من أكثر اللحظات حسماً في تاريخ القرن المنصرم. إنها اللحظة التي فصلت بين عصرين في العالم، اللحظة التي واجه فيها يلتسن دبابات الانقلابيين متزعماً الجماهير التي احتشدت احتجاجاً على الانقلاب. فكان ما أبداه من إقدام وثبات وثقة هو العامل وراء تردد الجنود الذين اعتلوا الدبابات في تنفيذ أوامر قادتهم بمنع التجمهر واستخدام القوة ضده. ولكن يلتسن قاد ذلك التجمهر في أكبر ميادين موسكو، وجابه الدبابات ذات الجنازير الضخمة التي كان ممكناً أن تهرسه مثلما فعلت مثيلاتها في طلاب ميدان السلام السماوي في بكين. والفرق الذي ينساه من يهجون يلتسن، صباح مساء، أنه في الميدان الصيني افتقد الطلاب رمزاً في حجم رئيس الجمهورية السوفياتية الأكبر والأهم حينئذ. وربما لو كان يلتسن نكص عن النزول الى الميدان الروسي لما وجد الجنوب حرجاً في أن يدهموا المحتجين على الانقلاب الشيوعي. ولكن الرئيس المنتخب من شعب روسيا هو الذي تقدم صوب الدبابات في ثبات نادر. وكانت لحظة حاسمة تلك التي صار فيها أمام دبابة المقدمة لا تفصله عنها غير خطوة واحدة. لحظة غيرت مجري النظام العالمي عندما وقف يلتسن أمام قائد الدبابة ونظر في عينيه ومد يده إليه طالباً أن يساعده في الصعود. لحظة حاسمة بكل معنى الكلمة تحول فيها مسار التاريخ عندما مد قائد الدبابة يده فاحتضنت يد الزعيم المتمرد وجذبه الى جواره ليشهد الميدان عاصفة من التصفيق والهتاف للحرية. مع ذلك، وعلى رغم هذا الدور التاريخي، لم يتعرض سياسي في العقد الاخير من القرن العشرين الى مثل ما نال يلتسن من انتقادات لا بل لعنات، نسى كثيرون دوره هذا، ولم يذكروا غير سوء ادائه عندما صار سيد الكرملين. وكان أداؤه من أسوأ ما يكون فعلاً. ولذلك انهالت عليه المطارق من كل حدب وصوب. وسبق بعض أنصاره خصومه في انتقاد أدائه. وتسابق كتاب وصحافيون في إبراز سيئات الرجل الذي اتهموه بأنه عاد بروسيا الى العهد القيصري، وكأنما لم يكن اساطين الشيوعية قياصرة مطلقي السلطة. ولم تخل انتقادات منتقديه من تناقضات بنائية، قيل عنه مثلاً أنه عربد في ردهات الكرملين ومارس سلطات قيصرية بل أكثر منها وأحكم قبضته الفولاذية على البلاد والعباد بعد أن فتح النار على البرلمان في مذبحة للديموقراطية في العام 1993. وقيل في الوقت نفسه إنه كان أشبه بخيال مآتة وخضع لقوى اقتصادية عاتية حكمت باسمه، وإنه أبدى بلاهة إزاء أزمات كبرى وبدا فاقد الاتزان في كثير من الأحيان. ولا يعني ذلك أنه لم يكن فاسداً. لقد فسد وأفسد وخالف ميراثه السياسي النظيف في الحقبة الشيوعية، والذي أهله لمواجهتها عندما انسحب من الحزب الحاكم الوحيد في تموز يوليو 1990 خلال مؤتمره الثامن والعشرين. وترك تقاليد فاسدة وكان آخرها المرسوم الذي أصدره الرئيس بالوكالة فلاديمير بوتين لحمايته وتحصينه ضد أي مساءلة قضائية أو إدارية. والحق أن الكثير من انتقادات منتقديه صحيح صائب. فقد عجز القيصر الأخير عن تأمين انتقال سلسل لبلاده من الاشتراكية الى الرأسمالية، ومن الشمولية الى الديموقراطية ومن الظلام الى النور. وفتح الباب أمام ذئاب اقتصادية كاسرة عاثت في البلاد فساداً وسرقت ونهبت وتجبرت وحالت دون بناء اقتصاد سوق حقيقي يقوم على منافسة حرة. كما غالى في اللجوء الى اجراءات لا ديموقراطية حتى صارت هي القاعدة لا الاستثناء، وأدى ذلك الى اضعاف روسيا وهبوطها من مكانة الدولة العظمى الثانية الى مرتبة دولة متوسطة مأزومة وعاجزة عن حل أزمتها، ولكنها تمتلك قوة نووية. وهذا فضلاً عن جرائم الحرب التي ارتكبت في عهده ضد شعب الشيشان، ومساندته للوحشية الصربية في البلقان. واعترف هو نفسه في خطاب الاستقالة الذي وجهه الى شعبه بأنه فشل في تحقيق طموحاته وطلب الصفح عن اخطائه. وهذا هو أكثر مواقفه ايجابية وتحضراً منذ أن تولى الرئاسة. وإذا كان ترك تقاليد فاسدة كثيرة، فقد وضع تقليداً ايجابياً في يوم استقالته حتى إذا لم يقصد ذلك، وهو أن يستقيل المسؤول عندما يفشل. وهذا موقف قد يجُّب بعض اخطائه التي ستظل تلاحقه، ولكنها لن، ولا ينبغي لها ان تسلبه حقه في الاعتراف به زعيماً فذاً ساهم بالدور الأهم في تحويل مسار بلاده وإخراج شعبه من وراء الستار الحديدي الذي لا تقارن مظالمه الهائلة بمعناة الروس الآن. فالفقر والجوع يمكن علاجهما بخلاف القمع والقهر اللذين راح ضحيتهما ملايين عدة فقدوا حياتهم في "جنة" الشيوعية التي يتباكى عليها اصحابها اليوم!. ولا يعني ذلك التقليل من معاناة الملايين الذين فقدوا وظائفهم ومصادر رزقهم في سنوات التسعينات، وواضح من نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، وسابقاتها، ان الشعب الروسي نفسه منقسم وموزعة مواقفه بين الخبز الذي لم يكن يكفيه في الحقبة السابقة، وبين الحرية التي لم ينعم بها كاملة في الحقبة الراهنة. ولو أن يلتسن بقي على حاله كما كان في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات لما وضع شعبه أمام الاختيار البائس. ولكن المناضل ضد التسلط تحول متسلطاً، والمحتج على الفساد صار فاسداً، فعجز عن تحقيق وعده الذي بدا متوهجاً حين تصدى لدبابات الانقلابيين الشيوعيين مخاطراً بحياته ومحولاً مسار تاريخ العالم برمته، قبل ان يتحول هو وينقض وعد الحرية ويغامر على حساب شعبه وبلاده بعد أن غامر من أجلهما ونقلهما من عصر الى آخر. وهو في ذلك كله زعيم فذ يستحق مكانة متقدمة بين رجال القرن العشرين أياً كان حجم الخلاف على دوره. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".