اذا كان واحد من سياسيي سورية في الخمسينات قد وجد نفسه، ذات يوم مندفعاً ليقول وفي عباراته الكثير من المرارة: "لقد شغلتنا القضية الفلسطينية والتغيرات العربية المتتالية الى درجة كدنا معها ننسى واحدة من قضايانا العربية الأهم: قضية لواء الاسكندرون، فان ذلك السياسي كان في حقيقة امره يقول عالياً، ما كان العديد من سياسيي تلك المرحلة يفكرون به او يقولونه همساً. فالحال ان قضية "اللواء السليب" ظلت شبه مغيبة، لا يكاد العرب يأتون على ذكرها الا في المناسبات، او حين تقوم خلافات من نوع ما بين انقرة والعواصم العربية. ومع هذا كانت تلك القضية خلال الثلاثينات والاربعينات، شغل القوميين العرب الشاغل، وكاد الأمر يؤدي بها لأن تشعل المنطقة لولا الوهن العربي في ذلك الحين، ولولا العاب السياسة التي جعلت العرب - او سياسييهم في ذلك الحين، على الأقل - يرضخون للأمر تدريجياً، حين استقرت لعبة الأمم، وضرورات انفتاح تركيا على العالم الغربي، على بورصة تنادي بمنح الأتراك ما يريدونه من الأراضي السورية، وكان لواء الاسكندرون، في ذلك الحين، بين ما يريدون. قضية لواء الاسكندرون وصلت الى ذروتها يوم 18 تموز يوليو 1938 حين تمكن الجيش التركي، بعد ثلاثة ايام من اجتيازه حدود اللواء، من احتلال مدنه ومناطقه ولا سيما اسكندرونة وبيلان وقرقجان، في الوقت الذي رابطت فيه القوات الفرنسية في انطاكية، وظلت مدن مثل الريحانية والسويدية في ايدي العرب. لكن هذا التقسيم كان مؤقتاً، لأن الاتراك كانوا يريدون ان يفرضوا الأمر الواقع على اللواء، وسط تواطؤ فرنسي واضح. ومن هنا كان دخول القوات التركية يهدف الى الضغط في وقت كانت فيه مدن اللواء تستعد لانتخابات تشريعية "حاسمة". وبالفعل ما ان استتبت الأمور للقوات التركية حتى اجريت الانتخابات ففاز الأتراك ب22 مقعداً بينما فاز العرب ب18 مقعداً. وصارت الأكثرية، على ذلك النحو، في ايدي الاتراك، ضمن منطق كان متفقاً عليه سلفاً بين باريس وأنقرة. قبل ذلك كانت القوى العربية، اذ وجدت ان توازن القوى لا يميل لصالحها، كانت قد حاولت ان توجد تسوية، حيث ان الحكومة السورية ، بناء على توصية كانت قد صدرت قبل ذلك عن عصبة الأمم، تنادي بأن يبقى للواء الاسكندرون طابعه المستقل، وان بشكل مؤقت، الحكومة السورية رأت ان الحل الافضل يقوم على تقسيم اللواء بين الاتراك والعرب، طالما ان ثمة فيه تجاوراً عرقياً يمنع اية قوة من الاستئثار به وحدها. وهكذا اعلنت الحكومة السورية، خلال العام 1937 انها ترضى بأن تكون مدينة الاسكندرون تركية بينما تبقى انطاكية عربية، على ان يصار بعد ذلك الى عملية نقل للسكان، يلتحق العرب بموجبها بانطاكية وبالمناطق المحيطة بها ويلتحق السكان الاتراك بالاسكندرون وتوابعها. بالنسبة الى الفرنسيين كان الحل منطقياً، ويبدو انهم هم الذين كانوا وراء الحكومة السورية حيث طالبت به، وان كان الكثيرون يرون ان باريس كانت، في ذلك الحين تلعب لعبة مزدوجة، فتدفع السوريين الى موقف يتبنونه، ثم تتخلى عن الموقف لصالح تأييد تبديه، سراً أو علناً، لأتراك مصطفى كمال، الذين كانوا قد اضحوا حلفاء لها منذ سنوات. ومن هنا، حين ابدى السوريون موافقتهم على التقسيم، وقد خيل اليهم ان فرنسا ستؤيدهم فيه، وجدوا فرنسا تؤيد انقرة حين رفضت هذه الاخيرة الاقتراح، على لسان مصطفى كمال الذي اصر على ان تكون انطاكية وكل ما جاورها جزءاً من تركيا. وهكذا انطلاقاً من ذلك الاصرار، واستناداً الى اتفاق كان قد عقد بين انقرةوباريس يوم 29/5/1937 شكله الخارجي يحافظ على استقلال اللواء، لكنه في جوهره يؤمن فصله عن سورية، دخل الجيش التركي الى مناطق اللواء يوم 15/7/1938، ليستكمل بعد ذلك بثلاثة ايام سيطرته. وكان ان اجريت الانتخابات التشريعية، التي جعلت الفرنسيين قادرين، استناداً الى "شرعية" اراضيهم، على توقيع اتفاق مع الاتراك في 23/6/1939، ينص على ان تضم اراضي لواء الاسكندرون كلها الى تركيا، وهو ما تم بالفعل بعد ذلك بعام، مما افقد سورية جزءاً عزيزاً من اراضيها.