فليس من الضروري ان يعرف ابناء الشعب جميعاً مقداراً متوسطاً من الطبيعة والرياضة والكيمياء وعلوم الحياة، وليس من الضروري ان يعرف ابناء الشعب جميعاً مقداراً متوسطاً من تاريخ اوروبا وأميركا، وليس من الضروري ان يعرف ابناء الشعب جميعاً لغة اجنبية او لغتين اجنبيتين، بل تستطيع كثرة الشعب ان تعيش عيشتها الهادئة اليومية بغير هذه الألوان من العلم. وإذن فطبيعة هذا التعليم العام مخالفة لطبيعة ذلك التعليم الأولى الالزامي الذي يجب ان يشارك فيه المصريون جميعاً. وهذا التعليم العام يهيئ الطلاب لتعليم آخر أرقى منه، هو التعليم الجامعي او التعليم الفني العالي. فهو اذن ينتهي بهم الى غاية مخالفة للغاية التي يقصد اليها التعليم الأولى. وينشأ عن امتياز هذا التعليم في طبيعته وفي غايته ان تتكلف الدولة له جهوداً اشق وأعنف، ونفقات اكثر وأضخم مما تتكلف للتعليم الأولى. فتهيئة المعلم للتعليم العام أدق، وأشد تعقيداً، وأكثر نفقة، من تهيئة المعلم للتعليم الأولى. وإنشاء المدرسة العامة اعسر من انشاء المدرسة الأولية، فهي تحتاج الى المعامل المختلفة، وهي تحتاج الى عدد من المعلمين لا تحتاج الى مثله المدرسة الأولية. وعمل هؤلاء المعلمين فيها اشق وأدق، كما ان اعدادهم لهذا العمل جهوداً طويلة شاقة، وبذلت الدولة في اعدادهم له جهوداً ليست اقل منها مشقة ودقة. وهم قد انفقوا في هذا الاستعداد مالاً كثيراً، وأنفقت الدولة في هذا الاعداد مالاً كثيراً ايضاً. فواضح جداً ان ميزانية الدولة لا تستطيع ان تنهض وحدها بنفقات هذا التعليم العام، وان الأسر التي ترسل ابناءها اليه لا بد من ان تحتمل شيئاً من هذا النفقات. وإذن فلن يكون هذا التعليم العام الزامياً لأنه لا يتجه، ولا يستطيع ان يتجه، ولا ينبغي ان يتجه، الى ابناء الشعب جميعاً. وما دام هذا التعليم ليس الزامياً فلن يقدم الى التلاميذ مجاناً. وإذن فسيكون مقصوراً على الذين يستطيعون ان يؤدوا اجره من ابناء الشعب، اي على ابناء الطبقات الوسطى والطبقات الغنية. ولن تكون الديموقراطية منصفة ولا ملائمة بين ما تستطيع وبين ما يجب عليها، ان مشت مع هذا المنطق الدقيق الى أبعد آماده، فلم تقدم هذا التعليم الا للقادرين على ان يؤدوا اجره. ذلك ان هناك منطقاً آخر ليس أقل دقة ولا صدقاً من هذا المنطق الذي عرضناه. فمن حق الفقراء ان يتعلموا، ومن حقهم ان يطمعوا في اكثر مما يعطيهم التعليم الأولى، ومن حقهم ان يطمحوا الى التعليم العام والى التعليم العالي. ذلك حقهم من جهة، وفيه مصلحة الأمة من جهة اخرى، وفيه تحقيق الديموقراطية نفسها من جهة ثالثة. فحرمان الفقراء لأنهم فقراء ان يتعلموا، وان يرقوا، وان يصلحوا احوالهم، وأن يطمحوا الى الكمال، تقرير لنظام الطبقات، وإيمان بسلطان المال، وعبادة لهذا السلطان، وفناء فيه. وليس هذا كله من الديموقراطية الصحية في شيء. فلا بد اذن من ان تحل هذه المشكلة حلاً معقولاً يلائم طاقة الدولة، ويلائم حق الفقراء في الرقي. وهذا الحل هو الذي وجدته الديموقراطية المعتدلة منذ زمن بعيد، وهو ان تأخذ من القادرين أجر هذا التعليم، وأن تحط ثقله عن العاجزين عن أدائه. طه حسين