كانت نظرة كمال جنبلاط للديموقراطية منذ البداية مرتبطة بشكل عضوي بما تحويه من فكر قانوني متطور. ومن اهم ما بقي لنا من تراثه، رسالته كنائب افتتح بها الندوة اللبنانية سنة 1946، محذراً من ان "الديموقراطية كلمة مبهمة مضلّلة استعملت كشعار لجميع الثورات التحررية او التعسفية وتستّرت خلفها الانظمة الاكثر رحابة وفوضوية، والديكتاتوريات الاكثر ظلامية وتضييقاً" ندوة 92 اما ديموقراطية كمال جنبلاط، ويسميها "الديموقراطية الحديثة" فانها تعتمد على اساسين: "حرية الانسان في المعنى الحالي لهذه الكلمة" و"المساواة الطبيعية او الجوهرية". ندوة 93 اما المساواة فهي موضوع ما رسمه كمال جنبلاط في كتاباته العديدة المتعلقة بالاشتراكية كنظام يؤمن مساواة الفرص، وسمّاها ايضاً بالصوفية الديموقراطية "تتمخض بنوع من التضامنية الجديدة، القومية والانسانية في آن معاً، وبقيم اخرى ومبادئ لا مجال لذكرها هنا". ندوة 96 اما الشق الاول وهو المتعلق بالحرية "كما نفهمها اليوم" فهي مبنية قبل كل شيء عما جرى شرحه في تلك المحاضرة المهمة بعنوان "حكم القانون": "تكون هذه الديموقراطية مثلاً للشرق والغرب - على غرار فنلندا وسويسرا واسوج والبرتغال، ويكون لبنان كما نريده، مركز تطوّر وتوجيه وهدى في العالم العربي والعالم المشرقي خصوصاً - ويصحّ اذاً فينا القول: اننا هنا في لبنان لا يسيطر علينا احد الا حكم القانون". ندوة 99 1 - الديموقراطية والقانون عن حكم القانون يتحدث كمال جنبلاط كقانوني، نراه يشرح بالتفصيل الدقيق الانماط القانونية المتحضّرة لما يسميه "المدنية الغربية" فيرجع بها الى القانونيين الكبار في حينه، امثال القاضي الاميركي لنرد هاند، كما الى التراث البرلماني البريطاني والفرنسي. ويذكر ان ترجمته لحكم القانون مستقاة مباشرة من المنظّر الاساسي في العالم الغربي الذي ابتكر هذه الكلمة، وهو الدستوري البريطاني دايسي، الذي يعيد كمال جنبلاط تعابيره حرفياً عن المصدر الأم، و"حكم القانون" هو الترجمة الجنبلاطية الحرفية لعبارة دايسي "فمن التجربة الدستورية البريطانية "لحكم القانون" دعوني أعيد عليكم تعريف المتشرع الانكليزي دايسي "لحكم القانون"، هذا الذي يفتخر كل بريطاني بأن يتمتع به في بلاده: 1 - هو السيادة المطلقة او الغلبة للقانون المعتاد الذي يتعارض مع السلطة الاستبدادية، وهذا ينفي وجود الاستبداد او الامتياز او حتى السلطة الاختيارية الواسعة في يد الحكومة. ان الانكليز يحكمهم القانون والقانون وحده. فالشخص عندنا قد يعاقب اذا ما خالف القانون ولكنه لا يمكن ان يعاقب لغير ذلك من الاسباب. 2 - والمساواة امام القانون او تساوي جميع الطبقات في الخضوع لقانون البلاد المعتاد الذي تطبّقه محاكم البلاد المعتادة، وحكم القانون بهذا المعنى لا يجيز اعفاء الموظفين او غيرهم من واجب الخضوع للقانون الذي يسيطر على المواطنين الآخرين او من اختصاص المحاكم العادية، فلا وجود عندنا لشيء يشبه القانون الاداري او المحاكم الادارية في فرنسا الدستور البريطاني، تأليف الاستاذ ايرون الكسندر، ص 109. وعن التجربة الدستورية الاميركية "اسمحوا لي ان اوضح هذه الروح بمنظار غير هذا المنظار، ومن وجهة اخرى هي وجهة الديموقراطية الاميركية الكبرى ومنظارها، وللتحسّس بهذه الروح الصحيحة سأورد لكم فقرات من خطاب مشهور القاه القاضي لنرد هاند في جمع غفير بلغ المليون نسمة في ايار مايو سنة 1945، اذ كلّف هو بتولي قيادة 150 الف من الذين تجنّسوا حديثاً بالجنسية الاميركية في حلف يمين الولاء للعلم: "وماذا نعني حين نقول اننا ننشد الحرية اول ما ننشد؟ كثيراً ما يخيّل اليّ اننا نسرف في الاعتماد في آمالنا على الدساتير وعلى القوانين، وعلى المحاكم. هذه آمال كاذبة. وصدّقوني حين اقول انها آمال كاذبة، فالحرية انما تكون في قلوب الرجال والنساء، فاذا ماتت فيها فلا الدستور، ولا القانون، ولا المحاكم تستطيع ان تنقذها، بل ما من دستور او قانون او قضاء يسعه ان يصنع شيئاً يذكر لمساعدتها، اما وهي حيّة في القلوب فلا حاجة بها الى دستور او قانون او محكمة لانقاذها. وما هي هذه الحرية التي يجب ان تعمر قلوب الرجال والنساء؟ انها ليست الارادة الجامحة التي لا رحمة فيها. وليست الحرية في ان يفعل المرء ما يشاء، فان هذا نقض للحرية يفضي مباشرة الى القضاء عليها. وكل جماعة لا يشعر اعضاؤها بكابح لحريتهم، سرعان ما تصبح جماعة لا ينعم بالحرية فيها سوى قلّة غير مصقولة، كما تعلمنا لسوء الحظ. فما هو اذن روح الحرية؟ ليس في وسعي ان اعرفه، وكل ما يسعني هو ان افضي اليكم بعقيدتي: ان روح الحرية هو ذلك الروح الذي لا يبلغ مَنْ يقينه ان يعتقد انه على صواب. روح الحرية هو الروح الذي يحاول ان يفهم عقول الآخرين من رجال ونساء. روح الحرية هو الروح الذي يضع مصالح الغير في كفّة ميزان، ومصالحه هو في كفة بغير تحيّز. روح الحرية يذكر انه حتى العصفور لا يسقط على الارض من دون ان يعبأ به احد. روح الحرية هو روح اولئك الذين علموا الجنس الانساني قبل سنوات عديدة ذلك الدرس الذي لم يحذقه قط، ولكنه لم ينسه كل النسيان: انه قد تكون هناك دولة يظفر فيها الادنون بالاستماع اليهم والرعاية لهم الى جانب الأعلين". ندوة 95 والفكر القانوني والدستوري لم يكن يوماً مستقلاً عن الممارسة السياسية "على الارض" كما يقال: ولكمال جنبلاط مساهمات عديدة في هذا المجال، ترافق الحقبات المختلفة من حياته الحزبية. وعموماً، ومع الكتاب المعروف ب"وصيتي"، او كما جاء في عنوانه الفرنسي الاصلي "ربع قرن من النضال" 1974، قد تشكل بعض اهم التراث المكتوب بالنسبة لهذه الممارسة. وبالفعل فإن هذا النص المقدمة محوري، وجاء ايضاً كتيباً مستقلاً بعنوان "الممارسة السياسية"، يسمح بمقاربتنا لصفوة افكاره في هذا الحقل الصعب - وان صحّ في البداية الالتفات الى العنصر غير المكتمل من هذه المقدمة. ومن الواضح ان الوثيقة الخلدونية الروح بتجديدها الفذ للفكر السياسي المعاصر لم تكتمل، فهي تحوي فصلين غير متوازيين لمجموع اشبه بمذكرات سياسية لمسار كمال جنبلاط المهني كرئيس للحزب الاشتراكي في "ربع قرن من النضال". والقارئ يتلمّس حماسة التأليف فيما كان على الارجح مرسوماً كفاتحة وجيزة لوثائق حزبية كان اكثرها بقلم رئيسه على اي حال، والاحساس جامح بأن هذه المقدمة، وان طالت على رغم نوايا صاحبها، بقيت على طول قاصرة في مجالين على الاقل. الاول هو تصوّر كمال جنبلاط لتحرك الحزب على الساحة الاقليمية والدولية: "ولن نتحدث - لطول سياق البحث - عما اسهم به الحزب، في نضاله في الحقل العربي وعلى الصعيد الخارجي… يكفي ان نقول - لأن غيرنا نوّه بذلك واشاد - ان الحزب كان مدرسة في تلقين الاصول والمسالك للسياسة العربية وللسياسة الدولية الخارجية للعالم الثالث، وكانت افكاره هي السبّاقة في تصوّر الاحداث". ربع قرن 86 اما الفصل الآخر فهو يظهر في الاشارة الوجيزة التي اتخذت سمة دعوة الى العمل المباشر: "اذاً الى العمل المباشر ايها الاعضاء والاخوان، وامسحوا صفحة نضال الحزب، وطهّروها من كل تقييد رتيبي، ومن كل اتكال على اساليب النضال بالصحف وبالكلمات والاجتماعات… فتربية الفرد وتربية الجماهير لا تتأتى الا بواسطة هذه القابلة العظيمة للتاريخ، والتي هي العمل المباشر في جميع الوانه". ربع قرن 47 وتثبت الصفحات الاولى لمقدمة "ربع قرن من النضال" اتّكال هذا المفهوم على سيرة المهاتما غاندي، والتي ارتكزت عليها منذ البداية أسس ميثاق الحزب الاشتراكي: "يعتمد الحزب اساليب العمل المباشر ومبدأ التضحية بالذات للوصول الى اهدافه، وبالتالي فكرة الانقلاب الشامل"، اي الشامل لنفسية الانسان ولتفكيره وتصرفه وشعوره، وللمجتمع وللدولة وللبشرية ربع قرن 16. وعلى مستوى التطبيق، يذكر كمال جنبلاط تجليات العمل المباشر في أمثلة عدة: "فتوجه الحزب في بداية تكوينه إلى ممارسة شتى النشاطات الاجتماعية والعمرانية والسياسية المباشرة... فتأسست وعملت تعاونيات العمل في الحزب - وهي مجموعة من الشباب الأعضاء وغير الأعضاء تعمل بدون أجر في مساعدة بعضهم البعض وفي مساعدة الآخرين من أبناء البلدة، في زرع نصوب الأشجار وفي بناء البيوت وترميمها... وبعض تعاونيات الاستهلاك... لكن جميع هذه النشاطات كانت تقوى وتضعف، تنشط وتخبو وفق الظروف، وحصول مثابرة أو انعدامها، أو طبقاً لمزاجية بعض الأفراد" ربع قرن 17. ففي استحالة رفع مفهوم العمل المباشر إلى مسار وطني يحمله الحزب في أيام الثورة - نظرية الثورة وممارستها هي من المحطات المستقبلية الجديرة بالتأمل الخاص بها - ما هي، في وقت السلم، العناصر التي على الحزب أن يحملها ليقترب من مثال المساواة والتقدم الموجودة في مبادئه؟ إن كتاب "ربع قرن من النضال" يوفر مجموعة أفكار، بعضها تحددت في فصل يحوي 17 اقتراحاً. لكنه وراء تعداد قد يطول أو يقصر، نواة منهجية وصفها بنهج "القائد السياسي الذي يقدم ربما كالطاهي البارع مادة واحدة من الطعام لبضعة أيام، ولكن بأشكال متنوعة. ولكن حذار ان يبقى على الشكل الواحد زمناً أطول مما يتوجب". ربع قرن 12 والصورة هذه موجودة في قالب أدبي طريف ينشده جنبلاط في عبارة شكسبيرية للمسرح: "الحياة السياسية كلها مسرحية. فمن لا يتقن فنون العرض والاخراج لا يصلح لمهنة السياسة. وعلى المخرج، أي القائد السياسي، أن يفطن دوماً ان المادة البشرية ليست في يده مطواعاً، وأنه لا بد من حدوث ملل، أو ارتداد إلى التقليد والعادة، لأنه يصعب على الجماهير الارتفاع المتواصل إلى مستوى النضال والمثابرة عليه، والتضحية المستمرة لأجله، واتباع الزهد المعنوي لغاية ذلك... وحتى البطولة، قد يأتي وقت يأنفها الناس، ويتحولون عنها، كالأولاد الذين يحطمون أصنام لعبهم". ربع قرن 46 فخارج الأوقات المحدودة التي ينقلب فيها العمل السياسي ثورة، وقد تكون الثورة "عنيفة أو لا عنيفة"... لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار التعب وضرورة الراحة، لبروز الملل، وضرورة التوقّف والتنويع والتجديد". ربع قرن 47، فمضمون الرسالة السياسية، بالنسبة للجماهير، "أو ما اصطلح على تسميته كذلك" ربع قرن 11، صعب التجديد إذا ما تركنا عموميات العمل المباشر. لكنه من الممكن استشفاف خيط في أعمال كمال جنبلاط ينبثق من "الانفعال المستعلي بالمثالات الكبرى للإنسان" ربع قرن 11، وهي التي تتجسد بتجليات مختلفة تلقى قاعدتها في الفن والعمل والمراس السياسي، بما هي جميعها موطدة اخلاقياً، أي مبنية على الحب والتضحية. أما هذه القناعة في مُثل تتخطى الحياة اليومية فهي أساس الفارق بين كمال جنبلاط والماركسية: "خلافنا مع الأحزاب والماركسية، في تأويلها للماركسية، هو اعتبارنا ان القيم المعنوية التي أبرزها التطور والحضارة هي الإنسان، كل الإنسان. لأنه بها يتم الادراك الفهمي ويتميز الكائن البشري عن سواه من الكائنات الحية". رفع قرن 60 هذا لا يعني أن كمال جنبلاط لم يكن منهمكاً على العمل اليومي، كما يسهل متابعته في عدد وفير من الاقتراحات العملية المقدمة طوال العقود الثلاثة من قيادته الاشتراكية. وهذه بدورها تكشف الجانب الآخر لممارسته السياسية في أيام السلم. وبعبارة أخرى، وبغض النظر عن الأمثلة التي أعطاها عن العمل المباشر على شاكلة بناء المنازل، ودعم التربية الشعبية الشاملة... الخ، فإن اخفاق الحزب في الوصول ببرنامج إلى الحكم في ظل نظام ديموقراطي برلماني يشكّل مناسبة صريحة للتساؤلات العديدة التي طرحها القائد السياسي، وجميعها راسخة في سؤال أساسي في مجتمع المساواة، وهو حق وصول المواطن إلى السدة القيادية العليا من دون التفاتة إلى أصل أو فصل أو طائفة. هنا يدخل القارئ مع كمال جنبلاط في فترة لبنان الذهبية من السياسة التفصيلية المرتبطة بالحدث، منها مثلاً عديد المساومات التي تثبت اهتمامه اليومي بما سماه "المثالية الواقعية". ومن هذه الأمثلة الاحساس بالظلم تجاه التحالف الواسع الذي أتاح لشخص آخر ان يقطف ثمرة عمله كزعيم الجبهة الاشتراكية الوطنية سنة 1951، ومن الأمثلة المتكررة أيضاً لسياسات الانتخابات المحلية، ما اضطر كمال جنبلاط، في محاولة لدعم مرشح الحزب الاشتراكي للنيابة، على تجاهل حليف مسيحي أساسي حمله إلى القطيعة في فترة من الفترات مع حزب العميد ريمون إده ربع قرن 25. وبجانب الأخطاء المرحلية، كانت هنالك معضلات أكثر عمقاً، منها "خطأ تقدير طاقة الناس على الصمود" في المعارضة. وهنا ومع شيء من الدعاية، يشير صاحب المراس المتصل إلى "أن المدة المحدودة للصمود في النضال السياسي تراوح، في نظرنا، بين الست والعشر سنوات. ولا بد ان يكون لهذه الدورة علاقة ببعض أدوار الكواكب أو الشمس - كالدور المتكرر كل إحدى عشرة سنة - أو التزام بدورة داخلية لتكوين الإنسان البيولوجي الجسدي أو النفسي، أو صلة بطرق وأساليب المعارضة". ربع قرن 27، فالبقاء خارج السطلة مشكلة، خصوصاً في مجتمع لبناني صغير، "فلا يمكن عملياً فصل الخدمات الخاصة عن العمل السياسي في لبنان - وربما إلى حد أقل خارج لبنان - لكونها تشكل هامشاً دونه لا يستقيم النجاح في النيابة ربما لأحد. وهي نوع من إظهار العطف في خدمة الناس. والناس عامة شعوريون، ولهم في النهاية مصالحهم التي يعيشون منها". ربع قرن 63 وعلى مستوى العمل في أيام السلم، والصعوبات التي تعتري الممارسة السياسية فيها، يمكن استقصاء نتيجتين أساسيتين في الفكر الجنبلاطي: الأولى هي أهمية التسوية، وضرورة التسوية واضح في تحاليل الزعيم الاشتراكي، وحاول مراراً ان يقدم نظرية تفصله في باب التسوية عمّا يسميه التورط: "وهكذا يبرز لنا، إذا هبطنا من سماء الرسولية المطلق، الذي سيطر على مثاليتنا الحزبية الأولى في مسلك المنهجية، أن التسوية حكم وضرورة في كل خطوة نخطوها، لأنها من نهج الحياة". ربع قرن 43. لكن ما معنى التسوية في الحياة السياسية، عدا الالتفات إلى الآخرين "للوقوف على أحوالهم في كل مرحلة؟" ربع قرن 44: "التسوية تكون لغايات ثلاث في مفهومنا المبدئي والحزبي: - إما لتأخير التحرك، في مواجهة الخصم، في رغبة الاستعداد. - وإما لإراحة الناس ردحاً من الزمن. - وإما لكسب بعض ما يمكن كسبه واعتباره ربحاً ولو جزئياً بالنسبة للشعب المناضل، في منطق استنساب الظروف للوصول إلى بعض الأهداف". ربع قرم 51 على أي حال "يجب أن لا تكون التسوية على حساب المبدأ". ربع قرن 51 والمبدأ بالطبع يشمل الصورة الثورية الأوسع "للديموقراطية الجديدة" التي كان كمال جنبلاط يؤمن بها، والتي كان النظام الطائفي، في أحسن الأحوال في لنان، مانعاً دستورياً لوضعها حيّز التنفيذ. من هنا رسالة الحزب للعلمنة وللحق المعطى لأي فرد ولأي مواطن أن يصل إلى القمة في العمل السياسي العام. بهذا الدمج بين العنف المادي والمعنوي يحاول كمال جنبلاط ان يحل كلامياً معضلة عميقة تنجلي على ساحة التاريخ بإباحة سفك الدماء أو رفضه. وقدلا يكون مفيداً البحث في فهمه للمهاتما غاندي لاستدراك تفسير يشفي الغليل. فيكتب مثلاً ان المهاتما "أعاد الصدق إلى السياسة، أعاد النهج الثوري الذي يتوافق مع الروح ومع الأخلاق، أو بالحري ينبثق منهما. هي الوجودية الحقيقية للإنسان وهي صدق في أشرف تجلياته. وهنالك وجه آخر لهذا النهج الجديد والقديم الأزلي فينا في آن واحد، هو ممارسة الفعل بنية ورغبة عدم الايذاء ما أمكن مادياً ومعنوياً للآخرين، أي بروحية المحبة والشفقة إلى أقصى حدود الشفقة والمحبة، وليس لها حدود. فقاعدة عدم الايذاء، التي ترجمت خطأ باللاعنف، لا تنفي استخدام العنف، وكل عمل في النهاية تعنيف على الاقل معنوي وفرض وجهة نظر على الآخرين وتجريدهم من حرية الشر والفساد بجعلهم ينصرفون الى التمتع بحرية الخير التي هي وحدها الحرية الحقيقية. ولكن هذا النهج المعنوي المفعم بالحب وبإدراك الغاية الاخيرة لا يرتضي العنف الا عندما يفرغ، بدون قنوط ولا ملل وبصبر الاولياء والقدّيسين، من استخدام جميع الوسائل، وضمن شروط تفترضها عناصر القاعدة المعنوية المناقبية التي انطلق القائد منها ليتحرك". ثورة 111 2 - في الشرق الاوسط الجديد انتهينا، في دراسات مختلفة عن الشرق الاوسط في قالبيه القانوني والسياسي، عن ضرورة الابتعاد عن العنف وسيلة للتغيير في المنطقة. ولهذا الاستنتاج تفضيلاته المتشعبة، المنبثقة اصلاً من عدم جدوى العنف طوال هذا القرن، وضرورة التماس السبل البديلة التي تبتعد عن العنف قدر الامكان، ريثما يتم الانفصال عن سيادة العنف في يومياتنا الشرق الاوسطية، وسيادة السلم فالقانون محلّه. ومع تواتر ملامح الانجلاء السياسي في المنطقة، الذي قد يكون وقد لا يكون، من الضروري العودة مجدداً الى مقومات ما بعد السلم - الهدنة لأنها، كما نعرف من المسار المتلعثم للسلام في الشرق الاوسط القرن العشرين، سوف تكون مرهونة بميزان للقوى جعل مصالح الدولة اليهودية، بما هي دولة يهودية، تطغى بشكل واضح على مصالح ضحاياها، بنسب متفاوتة وعلى مراحل تزامنت مع الاستعمار ومخلفاته المعقدة. لكن التأسف على ميزان القوى ليس اليوم لمصلحة الضحية، كما ان التوق الى السلم مهما كلّف من التنازلات، كلاهما ليسا كافيين عنواناً للسلام الحقيقي طالما لا نحاول رسم البديل الحضاري لعنف جديد نرفضه ولسلم ناقص نرى في سماته الاولى التورط والجور. وما البديل في مجابهة تنتهي في العقد المقبل الى معاهدات سلام على مختلف الجبهات، نعرف ملامحها بشيء من التفصيل، وهو انسحاب اسرائيل من لبنان ومن الجولان، وقيام دولة فلسطينية على جزء من الاراضي التي احتلها اسرائيل في الضفة الغربية من نهر الاردن؟ لسنا هنا بصدد تقويم التفاعل العربي مع وقع الدولة اليهودية في المنطقة في القرن العشرين، وان ازدادت قناعتنا كل يوم بأن اسوأ الاندحارات العربية التاريخية على الاطلاق كان السماح لدولة اسرائيل والدولة الصهيونية بالقضاء على الجاليات اليهودية العربية، وهي الجماعات التي قطنت في العالم العربي على امتداد تاريخه، وكانت، مع مسيحييه، رمز انفتاح الحضارة الاسلامية في عصرها الذهبي - على رغم الفجوات والاستثناءات - على حق الاختلاف، هذا الحق الذي كرسه الفقهاء الكبار نوعاً قانونياً راسخاً فيما بين المِلل الاسلامية وخارجها ومن اهم محطات المسؤول السياسي العدل، زيارته سنة 1970 الى ممثلي الطائفة اليهودية اللبنانية في بيروت، يشير الىها ديبلوماسي فرنسي في مرجع مهم عن الطوائف اللبنانية: "في كانون الثاني يناير سنة 1970 بعد تعد ارهابي غير مسبوق منذ اول القرن ضد مدرسة سليم طراب اليهودية توجه كمال جنبلاط، وكان آنذاك وزيراً للداخلية، الى كنيس مقام ابراهيم ليعبّر عن استنكار الدولة للحادث والتأكيد على وطنية طائفة قال: "انه لا غبار عليها على الاطلاق" أيننا اليوم من مثل هذا الترفع عن الطائفية، وليس باقياً من اصل طائفة عاشت في لبنان على امتداد الفي سنة اكثر من عشرة أنفار؟ فما معنى اقامة دولة طائفة اللون الواحد، هو اللون اليهودي، في فلسطين؟ بوجه التاريخ والعدل، هذا ما ردّده كمال جنبلاط حتى آخر يوم: "ما معنى هذا اللغط؟ وما كانت القدس لم تكن بالنسبة لنا يوماً غير قطار الساعة التاسعة والخمس واربعين دقيقة من محطة القاهرة". والجملة الاخيرة جاءت على لسان مواطن يهودي مصري اسمه ريمون اصطمبولي في الثلاثينات، رداً على دعوة اهله وزملائه للالتحاق بفلسطين طائفية خيالية كانت تحثه عليها جاهدة الدعاية الصهيونية في البلاد العربية، في حين كان اخوانه اليهود المصريون - وهم الذين عمروا مصر منذ فرعون، وتركوا فيها اعظم التراث العربي، مثلاً في "دلالة الحائرين" للفيلسوف ابن ميمون، ووثائق الجنيزة التي اكتشفت في كنيس القاهرة وصار اليوم اغلبها في جامعة كمبردج، وقد سمحت بأعظم توثيق للتاريخ العربي في مصر للفاطميين والمماليك بقلم المؤرخ الاميركي صموئيل غويتين، وغويتين، مثله مثل نعوم تشومسكي في الدراسات المعاصرة عن المنطقة، جعل النزعة الانسانية دائماً تطغى في كتاباته على النزعة الطائفية الضيقة. أليس ترجيح الانسانية على الطائفية، والاختلاف على التقوقع والانفتاح على الانعزال ما تميز به كمال جنبلاط، قولاً وفعلاً، ودائماً دعانا اليه، دائماً غارفاً من أرحب المناهل الفكرية والفلسفية، دائماً توّاقاً الى الجديد المبدع، دائماً جاعلاً مقياس عمله اليوم الارتفاع الى الانسانية الشاملة، وهي عنوان الشرق الاوسط الجديد، كما هي عنوان العولمة التي كان يصبو اليها. قد يكون كمال جنبلاط قد أخطأ والكبار غالباً ما يخطئون وهم يفقهون المخاطر دائماً بعين واعية وحسّ تاريخي جامح. * محام وبروفسور في القانون، والمقال من محاضرة أُلقيت في بعقلين في 11 كانون الاول ديسمبر الماضي.