عبر قصة غرام حميمة، عبر طقوس الحب والجنس بين زوجين، يأخذ فيلم آموس غيتاي "قدوس" المشاهدين الى عالم اليهود المتدينين المتشددين، دارسي التوراة الابديين، المقيمين في احد احياء القدس. حي خاص بهم، غيتو طوعي، معزول عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي. شخصيات الفيلم قليلة، كما الكلام، كما حركة الكاميرا. لكن الاقتصاد هنا لا يولد فقراً بل تكثيفاً. لا شخصية نافلة، لا كلمة، ولا صورة زائدة، والمشاهد لا يقول في اي لحظة: ليته اختصر! يقول الفيلم ان المتشددين يعيشون في الطقوس او من اجل الطقوس. وانها عندهم اهم من اي شيء آخر تختزنه الحياة: الحب، الامومة، الصداقة، التردد، المخالفة، التساؤل... والطقوس اهم من الحياة بالمعنى الحرفي للكلمة، بالمعنى المفضي الى الموت. دقائق طويلة تنقضي في المشهد الاول للرجل الناهض من النوم، يرتدي ثيابته. فتتخلل كل حركة وكل قطعة ثياب دعوات وصلوات متمتمة، تبدو ضرورية او ملازمة لفعل ارتداء الثياب، لما هو اكثر الافعال آلية، للمثال عن اهمية اكتساب العادة عند الانسان وهو الدرس الابتدائي في مادة علم النفس لطلاب البكالوريا. يبارك الرجل كل قطعة ثياب، يتحزم بالاشرطة التي تميز المتشددين، يتمتم ابتهالاته ومنها شكره لربه لأنه لم يُخلق امرأة. يستمر المشهد دقائق عدة. لا تضحك القاعة مع ان الباريسيين قوم متفلتون صاخبون، بل تنحبس الانفاس. لعلها حشرة اكتشاف هذا العالم المغلق، لعله شعور يلازمك منذ البداية بأنك لا محالة، ازاء مأساة تتهيأ. في المدرسة الدينية، يجلس الرجل امام طاولته منقباً في التوراة. يتحرك الرجل في القاعة ببطء، وحين يتبادلون الحديث فهمساً، كذلك حين يقرأون. الا واحد. هذا يقرأ بصوت عالٍ، يبقى واقفاً مهتزاً بعنف الى الامام والى الخلف. يسارع الى الدخول مع الاول في جدل يبدو محتدماً حول تعاليم التوراة في ما يخص اصول تحضير الشاي يوم السبت: هل وجود وعائين، انفصال الماء الساخن عن الشاي وعن السكر كافٍ لاعتبار مزجهما ليس طهواً؟ أيهما ينبغي ان يندلق على الآخر ومتى يُذاب السكر حتى لا يخالف الدين؟ نقاش مجنون تماماً لكنه يجري بحماس وجدية ومبدئية، كأن مصير البشرية برمتها متعلق به. يضيق الاول ذرعاً لكنه يستمر في النقاش. الطقوسية الشديدة الصارمة لاعضاء المدرسة الدينية لا يمكنها اذاً طمس الفروقات بين الناس. ها اننا امام نموذجين يبدوان متناقضن، الاول دمث والآخر عنيف. الا ان هاجس الفيلم ليس ابراز التنوع بل قول عدم اهميته، ادراك كيف ان النقيضان ينضويان، سحقاً او طوعاً، في آلية واحدة تتجاهل كل ما عداها. يقرر الرابين المشرف على المدرسة ووالد الرجل الاول الدمث، تزويج الثاني العنيف: تزويجه من شقيقة زوجة ابنه، الصبية المتمردة "ملكة". هذه تسير في الطريق بعنفوان، شعرها مُرسل وحركتها مختلفة. تتوقع ان "ملكة" لن تنصاع لقرارات الرابين. بل هي تعلن ذلك مرات ومرات. تحبّ شاباً يتردد على مكان عملها. شاب وقع عليه غضب الرابين لأنه وافق على الانخراط في التجنيد الاجباري ولأنه يرتدي الجينز. يؤكد الشاب حبه لملكة وتمسكه بإيمانه وبيهوديته، لكن المؤسسة الدينية تطرده خارج نطاق المقبول منها كما تدجّن ملكة وتزوجها ممن اختارته لها. يبث غيتاي وسط مشهد زواج ملكة الذي يجري في المدرسة الدينية نفسها، شريطاً وثائقياً لحفلة زواج بين المتشددين. آلاف من الرجال المعتمرين قبعاتهم وبذلاتهم السوداء المميزة، يرقصون حول امرأة وحيدة ترتدي ثياباً بيضاء شديدة الاحتشام، تبدو ضائعة تماماً، او كفريسة وسط حلقة لا فكاك منها. تخضع ملكة اذاً. تقصّ شعرها كما تقتضي الطقوس، وتدخل الفراش المتواضع الأشبه بقطعة ضيقة من الخشب أُلقيت عليها بطانية، يقع الرجل على زوجته كالبغل. تتسمر الكاميرا كأنها تصور مشهد اغتصاب عنيف ينقصه اعتراض المغتصبة، صراخها او مقاومتها. وفي اليوم التالي، وايضاً حسب الطقوس، ترتاد العروس الحمام. وهذا ايضاً فعل ديني. تسع غطسات تجريها سيدة متخصصة، ترفق كل واحدة بابتهالات محددة. نعرف ان السيدة هي والدة الامرأتين. رأيناها قبلاً تهتم بحمام الاخت الكبرى "رفقه". تسألها بدقة متناهية عن احترامها قوانين ممارسة الجنس مع زوجها: بعد الحيض بسبعة ايام ولثلاثة ايام ثم... امتناع. ندرك ان وظيفة الجنس هي الانجاب ليس الا، وان "رفقه" لم تنجب وانها هذا الشهر ايضاً ليست حاملاً، وانه قد مضى عشر سنوات على هذه الحال وان الرابين، والد زوجها، قد قرر تزويجه من اخرى. يقاوم الزوج او يماطل بالاحرى. يجادل والده الصارم معتداً بالحب والانسجام القائم مع زوجته. يقطع الوالد بأن المرأة العاقر كجثة ميتة وان عدم الانجاب اعتداء على التوراة وتمكين للاعداء. يسأل الرجل بشيء من الضيق: من هم الاعداء؟ يحرّك الأب يده مشيراً الى مدى يتجاوز النافذة، موحياً بحدود قريته، ثم يقول بعد تردد قليل وبعض الارتباك: انهم الآخرون، العلمانيون. تهلع "رفقه" فترتكب معصية: تذهب الى الطبيبة النسائية وترضى بفحص دقيق. تؤكد الطبيبة ان "رفقه" سليمة ولا مبرر لعقمها وتقترح عليها ان يجري زوجها الفحوصات اللازمة. ينقضي المشهد بطريقة خاطفة كأنما لقول استحالته وعدم اهميته في السياق الجاري. يتزوج زوجها وتقوم امها بطقوس حمام ضرّتها، رغم توسلاتها للرابين ان يعفيها من المهمة، ان يدرك شعورها كأم. يقف هذا متعالياً مغلقاًَ على العتبة الخارجية للحمّام، كحارس أصمّ للواجب. هذا اهم الاعتبارات بل الوحيد الجدير بالاعتبار. تتمكن القسوة من كسر كل المشاعر. تنسل "رفقه" المهجورة الى غرفة مستأجرة. تلك قمة الفيلم الدرامية. تدخل بمفردها مكاناً ضيقاً يحتوي الاساسيات. تجيل فيه نظرها بتمعن هادئ. تسري في اوصال المشاهد قشعريرة برد. تحتله عزلة ذلك المخلوق التامة، يحتله اللارجاء. تشهق القاعة ثم تكتم الانفاس، تحتضر الكاميرا. تأتي "ملكة" بعد ايام، تستلقي قرب شقيقتها على الفراش، تحادثها، ترجوها الكلام. تقول لها: تعالي نغادر، فخارج هذا المكان يوجد عالم آخر. يأتيها في احدى الليالي زوجها مخموراً باكياً. الا انها تبقى على نفس ذلك الذهول او بالاحرى الغوص نحو الذات. ينتهي الفيلم على افتراض مصير الشقيقتين. تذهب "ملكة" للقاء صديقها القديم في احدى الحانات، ثم تعود الى غرفة زوجها متحدية، فيضربها هذا وتهرب. وقبل ان نراها خارج اسوار القدس، نحو ذلك العالم الآخر المغاير الذي يأمل آموس غيتاي بدايةً لحياة جديدة، نرى "رفقه" تخرج من غرفتها وتعود الى منزل زوجها، تستلقي قربه، تحاول ضمه فيبقى كخشبة حتى الفجر، حين يكتشف انها... ماتت، فيملأ الدنيا زعيقاً: "رفقه قومي، قومي رفقه". رفقه لن تقوم. يدين آموس غيتاي في "قدوس"، لا رحمة المؤسسة بوصفها طاردة نابذة للحياة، قاحلة الا من مجموعة لا متناهية من الاوامر والنواهي التي تتمكن في النهاية من الحاق الدمار بالانسان، محوّلة اياه الى وحش قاس او الى الموت. وغيتاي في سياق تعريته للمؤسسات الدينية التي تتحكم بحياة شريحة اقلية من المجتمع، لكنها ليست قليلة، وضع الرجاء خارج اسوار هذه المؤسسة، لكنك حين تخرج من هذه الاسوار لا يسعك الا ان تستحضر فيلماً اسرائيلياً آخر هو "الحياة وفق اكفا" ومخرجه رافي دايان، ابن موشي دايان. لا يقل "قدوس" عنفاً عن"الحياة وفق اكفا". يختلفان في اسلوب العنف، وهو بالغ الهدوء كسكين تنسل الى القلب او كسمّ زعاف بالنسبة الى الاول، وبالغ الصخب بالنسبة الى الثاني. يظهر "الحياة وفق اكفا" التناقضات القاتلة التي تعتمل في المجتمع الاسرائيلي، يجعلها تتقاطع جميعها في احد مقاهي تل ابيب. تناقضات تفضي الى مقتل الجميع، عرباً ويهوداً، جنوداً وفنانين، متدينين وعلمانيين... هو فيلم عن الاستحالة. اما غيتاي فقد بقي، بهذا المعنى، اميناً لصهيوينته، وهي صهيونية نعرف من مواقفه السياسية ومن سائر افلامه، انها شديدة الاعتدال، لكنها لا تصل الى حد اعادة النظر في اساس المشروع. على كل ذلك، يبقى من "قدوس" ما هو الأعم والأكثر أبدية: انه حكاية رائعة عن الموت عشقاً.