وحدها القيادة السوفياتية كانت، حتى ذلك الحين تكابر وترفض أن ترى في القتال المستعر في افغانستان، بين الجيوش السوفياتية والمقاومين الافغان، "فييتنام" جديدة، ضحيتها هذه المرة الاتحاد السوفياتي نفسه. وعلى الرغم من التجديد الذي طرأ في أعلى مستويات الحكم في موسكو، وعلى الرغم من الاصلاحات العديدة التي راح غورباتشوف يعد بها شعبه، ويمارس بعضها بالفعل، على الرغم من "البريسترويكا" و"الفلاسنوست"، كانت الحرب الافغانية لا تزال مشتعلة وسط دهشة العالم وتساؤلاته. ولكن في مثل هذا اليوم من العام 1988، خطا الزعيم السوفياتي المجدد الذي سيكون آخر الزعماء السوفيات لما نعرف جميعاً الآن، الخطوة الحاسمة، وتحديداً في جنيف، تماماً كما كانت الحال بين الاميركيين والفييتناميين قبل ذلك بأكثر من عقد من الزمان. ففي الرابع عشر من نيسان ابريل من ذلك العام تم في المدينة السويسرية العريقة، وتحت رعاية الأممالمتحدة، توقيع ذلك الاتفاق التاريخي الذي رعته واشنطنوموسكو معاً، وتحدث عن انسحاب قوات الغزو السوفياتية من افغانستان بين 15 ايار مايو 1988 و15 شباط فبراير 1989، شرط ألا يحل يوم 15 آب اغسطس 1988، الا ويكون نصف عدد القوات السوفياتية البالغ 115 الف جندي قد انسحب، او حسب التعبير المستخدم: "اعاد انتشاره". من الناحية الرسمية عقد الاتفاق يومها بين "الحكومتين المعنيتين" بالصراع الافغاني: حكومة كابول وحكومة اسلام أبادباكستان. ولكن كان من الواضح من الناحية الجوهرية أن الاتفاق يعني ان تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي ينسحب فيها الجيش الأحمر من ميدان قتال خارجي، اي ميدان يقع خارج الأراضي السوفياتية. يومها شعر ميخائيل غورباتشوف انه تمكن اخيراً من الافلات من الفخ الافغاني بصورة بدت للعالم أفضل من الصورة التي كان الاميركيون قد خرجوا بها من الفخ الفييتنامي، حسب تعبير الصحافة في ذلك الحين. فالحال ان الزعيم السوفياتي الاصلاحي عرف، عبر التوصل الى اتفاق جنيف، كيف يبدأ اسلوباً جديداً في حل النزاعات الاقليمية، اسلوباً جعله يكتسب جزءاً كبيراً من الرأي العام الغربي والسوفياتي الى صفه، في الوقت الذي وفّر فيه على بلاده اكلافاً بشرية ومالية وعسكرية وسياسية كبيرة. وحسبنا للتيقن من هذا ان ننقل عن المصادر السوفياتية نفسها ان عدد القتلى السوفيات في حرب افغانستان بلغ 13310 قتلى. بقي ان نذكر ان موسكو نفذت بنود الاتفاق بحذافيرها، اذ لم يحل يوم 15 شباط فبراير 1989، حتى كان الجنود السوفيات كافة قد انسحبوا من افغانستان، وكان آخرهم الجنرال بوريس غروموف، الذي ما أن انسحب حتى وقف يراقب بكل حياد سقوط نظام نجيب الله، واستيلاء المجاهدين على افغانستان.