لا أعرف ماذا كان البرنامج المذاع بالذات، ولكني توقفت عند محطة ال"ام. بي. سي" الفضائية والمذيع يحاور الربعي من الكويت عن رأيه في تصريحات الرئيس صدام حسين وخطابه الأخير: هل الكويت مستعدة الآن لنسيان الماضي وفتح صفحة جديدة مع العراق؟ ويرد عضو مجلس الأمة الكويتي بأن القضية ليست قضية الكويتوالعراق بل قضية العراق مع المنطقة كلها وان خطاب صدام الذي تركز على الاخلاق والفضيلة هو مغالطة كبيرة، في حين ان ما يجري داخل العراق وفاض على المنطقة كلها اثناء الغزو هو أبعد ما يكون عن الفضيلة والاخلاقيات. فالعراق ما زال يعذب مواطنيه وما زال في حالة حرب وتوتر مع كل جيرانه شرقاً وشمالاً وغرباً وجنوباً، وليس في اختلاف مع الكويت او دول الخليج فقط. بعدها جاءت تفاصيل زيارة رمزي كلارك ووفد اميركي يزور العراق ويتفقد الملجأ الذي فجرته قنابل الحرب. يصرحون هذه الحرب كانت خطيئة! وأب عراقي معاق يؤكد انه فقد عدة ابناء في هذا الملجأ في هذه الغارة ولكنه مستعد لحمل السلاح للدفاع عن الوطن! أي سلاح! وأي وطن! وأي خطابيات جوفاء. من كل الجوانب! من هو العدو الحقيقي لهذا الأب المسكين الذي تُستغل آلامه إعلامياً؟ بغض النظر عن كلام السياسيين والديبلوماسيين، لا يختلف اثنان في ان ما جرى ويجري من تفاعلات العراق داخلياً ومع جيرانه لا يحوي من الفضيلة والاخلاقيات شيئاً. وإقحام هذه التعابير في خطاب رسمي أو شعبي هو بالذات مثل إقحام عبارة "الله أكبر" على علم العراق، أو بث صور صدام راكعاً ساجداً في أوج صرع لا علاقة له بالدين. ولا يحتاج الأمر لتوضيحه اكثر من خمس دقائق من الحوار مع اي عراقي كان بين المحظوظين الذين تمكنوا من الهرب من أتون العراق ليستقروا في الخارج، في أوروبا او أميركا حاملين ندوب معاناتهم معهم. * * * الشعب العراقي صغاراً وكباراً لم يبق فيه فرد لم تدمغه الاحداث بوشمها المر جسدياً ونفسياً. وفي الكويت ابيضت عيون الأمهات وهن يطالبن بأبنائهن الأسرى. وقبل أيام فقط اعترفت العراق بأن جثمان طيار سعودي مدفون في اراضيها. ومن يدري كم جثمان مجهول لم يعد الى وطنه من كابوس العراق. وقد يقول البعض ان المصالح الغربية افتعلت كل مقدمات الحرب والصراع في المنطقة لتبقيها في حالة ضعف دائم وتخوف مستوطن في صدر الجيرة كلها، وانها هيأت لذلك الجاثوم ومتورطة حتى الآن في ابقائه على صدر العراق.. ولكن هذا هو نصف الحقيقة. فلا احد يإمكانه ان يفتعل ما ليس له جذر في الحقيقة. وكابوس العراق تولد وتفاقم داخلياً قبل ان ينفخه احد من الخارج الى حجم الجحيم الذي انفجر بكل المنطقة في بداية التسعينات ليظل كابوساً يسكننا. ذلك الجاثوم، الحلم المزعج حد الإرعاب وإثارة الهلع يتسلل الى الوعي عبر الذاكرة المتعبة المقيتة التي ترفض ان تغادر الحس. ذاكرة تجربة نفضل لو ننساها ثم لا نستطيع ازالتها، تترصدنا في ثنايا الذاكرة وتنفذ حين ترتخي اجهزة الرصد في وعينا لتعود الى السطح بكل قدرتها على الإيلام ونكأ الجراح.