بالنسبة الى المصادر الغربية التي حاولت دائماً ان تفهم شخصيته ودوافعه على طريقتها، يعتبر الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين الأكبر، واحداً من أغرب شخصيات منطقة الشرق الأوسط وأكثرها اثارة للجدل. وبالنسبة الى خصومه من قادة العمل الفلسطيني طوال النصف الأول من القرن العشرين، كان الحاج أمين شخصية متقلبة اضاعت العديد من الفرص التي كان بامكانها ان تؤدي الى انقاذ ما يمكن انقاذه من فلسطين. اما بالنسبة الى أنصاره من الفلسطينيين والعرب، وكانوا كثيرين مثلما كان خصومه، كان الحاج أمين الحسيني شخصية لامعة، ومناضلاً نزيهاً بذل كل ما لديه من جهد من أجل فلسطين وافنى عمره في سبيلها، لكن الظروف كانت، على الدوام، أكبر منه، ومن رغباته وجهوده. والحال ان الحاج أمين الحسيني، هو مزيج من تلك الصور معاً، اضافة الى انه كان لاعباً أساسياً في لعبة الشرق الأوسط، وكان لاعباً ماهراً حاول دائماً ان يستفيد من كل الظروف المتاحة، أخطأ في ذلك أم أصاب، أغاظ البعض ام أرضى البعض الآخر. باختصار كان الحاج أمين على صورة اللغة السياسية في زمنه. ومن هنا كان حجم دوره وخطورته، اما حين تغيرت اللعبة ولم تعد تشبهه، فإن دوره انتهى وصار علامة من علامات الماضي. من هنا حين رحل الحاج أمين الحسيني عن عالمنا يوم الرابع من تموز يوليو 1974 كان قد أضحى معلماً من معالم الماضي لا أكثر. ولد أمين الحسيني في العام 1896 في فلسطين، وكان في مقتبل العمر حين تخرج من الكلية الحربية في اسطنبول وانضم الى حلقة المناضلين العرب المحيطين بعزيز علي المصري. وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى وبدأت أولى التحركات الاستقلالية العربية انضم أمين الحسيني الى الجيش الشريفي. وهو تبدى منذ بدايات وعيه السياسي معادياً للصهيونية، وللانتداب البريطاني، وهكذا نراه يناضل ضد الاثنين معاً وصولاً الى مشاركته في ثورة القدس ضد الانكليز في العام 1920، مما جعل الانكليز يحاكمونه ويصدرون حكماً قاسياً في حقه، لكنه تمكن من الهرب الى الأردن لاجئاً، حتى عين السير هربرت صموئيل مفوضاً سامياً بريطانياً في فلسطين. وكان صموئيل في أول عهده من أنصار سياسة مهادنة للعرب، فاطمأن أمين الحسيني له وعاد الى فلسطين، حيث كان صموئيل قد عمل على تشكيل مجلس اسلامي أعلى، فعين أمين الحسيني مفتياً لبيت المقدس، لأن آل الحسيني انفسهم كانوا قد اعتادوا تولي منصب الافتاء في المدينة المقدسة منذ زمن طويل. وعلى ذلك النحو تحول الشاب المناضل الى رجل دين عريق. غير ان هذا لم يلغ ذاك، اذ واصل أمين الحسيني نضاله ليصبح واحداً من زعماء الحركة الثورية العربية، وواحداً من أشد معارضي المشروع البريطاني الذي كان يتطلع الى اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين انطلاقاً من وعد بلفور الشهير. مهما يكن فإن الخلافات المحلية والتنافس العائلي في فلسطين في ذلك الحين لم يمكنا الحاج أمين من أن يتزعم، وحده، التحرك السياسي الوطني، بل جعله زعيماً لتيار أساسي من تياراته، وعلى تنافس مع العديد من التيارات الأخرى. ومنذ ذلك الحين صار الحسيني طرفاً في العديد من الصراعات الفلسطينية - الفلسطينية، والعربية - العربية. وهو حين ترأس المؤتمر الاسلامي في 1931 صار واحداً من كبار الزعماء العرب والمسلمين، لكنه صار ذا خصومات تزداد عدداً ونفوذاً. في 1937، حاول الانكليز الاستفادة من وقوف العديد من القيادات الفلسطينية ضده، فحاولوا القبض عليه بتهمة التحريض على الثورة، فهرب الى لبنان ومنه الى العراق، حيث ساهم في حركة رشيد عالي الكيلاني، مما جعل الانكليز يعتبرونه من رجال المانيا النازية، وهي "تهمة" ظلت عالقة به حتى النهاية، خاصة وأن أمين الحسيني، حين فشلت حركة الكيلاني في العراق وجد نفسه يفر الى روما ومنها الى برلين حيث أقام طوال فترة الحرب العالمية الثانية، وساهم في الدعاوة السياسية الهتلرية الموجهة الى العرب، ولكن للحقيقة التاريخية لا بد ان نذكر ان مناصرته لألمانيا في ذلك الحين نبعت من كراهيته للانكليز لا من حبه للهتلريين، وهذا ما لم يفهمه الغرب أبداً، كما آثر العديد من العرب السكوت عنه! عندما انتهت الحرب العالمية الثانية اعتقل الحاج أمين في فرنسا، في العام 1945 لكنه تمكن من الهرب عائداً الى فلسطين عن طريق مصر ولبنان، وهناك ترأس الهيئة العربية العليا، وصار عليه ان يخوض العديد من المعارك ولا سيما ضد الأجيال الجديدة من الزعامات الفلسطينية، ولا سيما ضد فلسطينييالأردن الذين كانوا يخصونه بعداء شديد. وبعد ضياع فلسطين انتهى به الأمر الى الاقامة في لبنان، حيث واصل عمله السياسي، كرئيس للهيئة العربية العليا، وأصدر مجلة شهرية اسمها "فلسطين" نطقت باسمه وكان جلّ همها تبرير ماضيه.