من المؤكد ان فصول الحرب اللبنانية باتت اكثر من ان تعد وتحصى، بيد ان ثمة فصلاً بينها يمكن النظر اليه على انه الأسوأ، لأن آثاره السيئة لا تزال قائمة حتى اليوم، ولا تزال تلك الآثار تشكل العقبة الرئيسية - وربما يقول البعض: الوحيدة - التي تحول دون استعادة لبنان عافيته. هذا الفصل هو فصل الاحتلال الاسرائيلي للجنوباللبناني. وهو احتلال تكرس - وفي هذا ما فيه من التناقض - يوم الثاني والعشرين من آذار مارس 1978، عبر توقيع اتفاقية وقف اطلاق النار بناء على اقتراح اميركي، قضى نظرياً بأن تنسحب اسرائيل من الجنوباللبناني الذي احتلته، وان توضع المنطقة تحت اشراف قوات الأممالمتحدة. في ذلك اليوم بالذات بدأت تلك القوات بالوصول، وكانت تنتمي الى دول عدة من بينها فرنسا التي ساهمت بستمئة جندي. وكان من المفروض ان يكون وجود هذه القوات موقتاً، وان تشرف على الانسحاب الاسرائيلي، بيد ان الوجود صار دائماً واسرائيل لم تنسحب حتى اليوم، بل ولسوف تزيد من عدوانها بعد ذلك وتصل في 1982 الى بيروت وتزيد في تدميرها، لكن تلك حكاية اخرى سنعود اليها في موعدها. اليوم نتوقف عند ذلك الاحتلال الأول الذي كرسته الأممالمتحدة - للأسف - تكريساً شرعياً كأمر واقع في ذلك اليوم من ربيع العام 1978 بتركيزها قواتها عند مناطق تضمن لاسرائيل التصرف بحرية في جزء كبير من الأراضي اللبنانية لا تزال تمرح فيه وتسرح حتى اليوم! فكيف بدأ ذلك كله؟ بدأ - كالعادة - بغارة شنها فدائيون فلسطينيون على طريق حيفا - تل أبيب وأسفرت عن وقوع 35 قتيلاً. وكان ذلك يوم الحادي عشر من آذار مارس. وكالعادة تذرعت اسرائيل بتلك العملية الفدائية لتبدأ يوم 14 من الشهر نفسه "عملية خاطفة" قام بها ثلاثون الف جندي على قواعد الفلسطينيين ومخيماتهم في الجنوباللبناني. وهي عملية شاركت فيها مئات الطائرات والدبابات وقطع المدفعية. وأعلنت حكومة تل أبيب يومها ان العملية ليست عملية انتقامية، بل حملة تنتمي الى اسلوب الدفاع الذاتي الاحترازي الذي جعله تكاثر العمليات الفدائية امراً لا غنى عنه. وأعلن مناحيم بيغن، رئيس الحكومة الاسرائيلية في ذلك الحين، ان القوات المسلحة التابعة لبلاده سوف تبقى موجودة داخل الأراضي اللبنانيةجنوب نهر الليطاني طالما انها لم تنل من الضمانات ما يؤكد ان الفلسطينيين سوف لن يدخلوا تلك المنطقة ثانية. وحتى اليوم لم تخرج اسرائيل من المنطقة. بل انها على العكس من ذلك، راحت تعزز وجودها فيها تحت سمع الأممالمتحدة وبصرها، وأنشأت في داخل المنطقة التي اطلقت عليها اسم "الحزام الأمني" ميليشيا محلية تعاونت معها ولا تزال، وراحت تمارس في داخل المنطقة نوعاً من الادارة السياسية والبلدية.